توصيات الخروج من اللائحة الرمادية بلا تعاميم وازالة لبنان عنها قرار سياسي

توصيات الخروج من اللائحة الرمادية بلا تعاميم وازالة  لبنان عنها قرار سياسي

في أيار الماضي، قدّمت اللجنة التي شكّلها وزير العدل، عادل نصّار في شباط للعمل على وضع توصيات للخروج من اللائحة الرمادية للدول غير المتعاونة في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تقريرها. التقرير الرئيسي مؤلّف من 88 صفحة، يُضاف إليها 21 مُلحقاً، يتضمّن الإجراءات الإدارية والتنفيذية والقانونية اللازمة لتنفيذ «الإجراءات التصحيحية». ورغم أنّ وزارة العدل أصّرت على أن تنتهي اللجنة من عملها خلال 45 يوم كحدّ أقصى، إلا أنّها وبعد مرور 4 أشهر على تسلّمها التقرير، لم تُصدر التعاميم المُرتبطة به ليدخل حيّز التنفيذ. ومن المعلوم أنّ كلّ تأخير في الامتثال لمعايير «مجموعة العمل المالي - FATF»، له انعكاسات سلبية على البلد. فبعد سنتين (في تشرين الأول تنقضي السنة الأولى) ستُعيد المجموعة مُراجعة تقييم لبنان. في حال اعتبرت أنّه لم يتّخذ الإجراءات اللازمة، يتم نقله إلى اللائحة السوداء، يعني قطعه نهائياً عن النظام المالي العالمي، ووقف جميع التحاويل عبر النظام المصرفي العالمي إليه.

داخل الحكومة ومصرف لبنان من يعتقد أنّ إدراج لبنان على اللائحة الرمادية قرار سياسي ولن يُشطب عنها إلا بقرار سياسي. رغم أنّ التقييم يعتمد 40 معياراً، ولبنان أُبلغ في حزيران عام 2023 أنّ القرار محسوم، يُحاجج أصحاب هذا الرأي أنّ القرارات الدولية أداة بيد الدول الكُبرى لانتزاع التنازلات من الحكومات. وهذا يُبرّر بالنسبة لهم عدم حماسة وزارة العدل البتّ بالتقرير الذي أعدّته اللجنة. قد يكون تحليل هؤلاء «واقعياً»، ولكن لا يُمكن إنكار أنّ السلطات في لبنان لم تُبادر إلى الحدّ من الجرائم المالية ومحاسبة المُرتكبين. 

التقصير الداخلي

خلال فترة التحقيق بملّف شركة «فوري» التي أدارها رجا سلامة (شقيق حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة) ومكّنت الشقيقين من جني أكثر من 325 مليون دولار عمولات من بيع أدوات مالية، قدّمت هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان إلى المحامي العام التمييزي - في حينه - القاضي جان طنوس تقريراً بعدم وجود شُبهة تبييض أموال على رجا سلامة، ليعود ويدّعي عليه القضاء الفرنسي بهذه التُهم. وتدّعي الدولة اللبنانية على شقيقه، رياض كذلك. 

نهاية الـ2019، طلبت هيئة التحقيق الخاصة من كلّ المصارف دراسة الحسابات التي حوّلت أموالاً خارج لبنان بين تشرين الأول وكانون الأول عام 2019. يومها صدّقت «الهيئة» تقرير المصارف بعدم وجود أي شُبهة في العمليات. في آب الماضي، طلب النائب العام المالي، القاضي ماهر شعيتو من الأشخاص والشركات (وبينهم مصارف) ممّن حولوا أموالاً إلى الخارج خلال الأزمة إيداع مبالغ تُساوي تلك التي حوّلوها. وهو يملك الأسماء والمعلومات الخاصة بهؤلاء وبدأ مراسلة المصارف بخصوصهم.

في تموز عام 2021، أوقفت الجمارك الفرنسية رياض سلامة لحيازته مبلغ 83 ألف يورو، وما قيمته نحو 7 آلاف يورو بالدولار، و50 سيجاراً، غير مُصرّح عنها. كان على الجمارك أن تفرض على سلامة، بموجب القانون 42/2015 (الذي ينصّ على التصريح عن كلّ ما يفوق قيمته 15 ألف دولار) غرامة وتُقدّم تقريراً بذلك لهيئة التحقيق الخاصة. الأمر الذي لم يحصل. 

لا توجد هيئة في لبنان تملك الصلاحيات الموسّعة الحاصلة عليها هيئة التحقيق الخاصة، بموجب القانون 318 الصادر عام 2001. هي الوحيدة التي تملك حقّ إجراء التحقيقات في العمليات التي «يُشتبه بأنها تُشكّل جرائم تبييض أموال وتقرير مدى جدّية الأدلّة والقرائن على ارتكاب هذه الجرائم أو إحداها. يُحصر بالهيئة حقّ تقرير رفع السرية المصرفية لصالح المراجع القضائية المختصة ولصالح الهيئة المصرفية العليا ممثلة بشخص رئيسها وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية والتي يشتبه أنّها استُخدمت لغاية تبييض الأموال». كم عدد التقارير التي رفعتها «الهيئة» إلى القضاء؟ ما في العمليات التي حاولت فعلاً التحقيق بها؟ وما هي مسؤوليتها في وضع لبنان على اللائحة الرمادية؟ لماذا تُركّز على اتخاذ الإجراءات في حقّ الأفراد والكيانات الذين يوضعون على لائحة العقوبات الأميركية، وهو إجراء إداري أميركي لا يُلزم القضاء اللبناني، ولا يعني بالضرورة أن يكون المُعاقب حقيقةً مُرتكباً لجُرم؟ 

حاول «كافيين دوت برس» التواصل مع  الأمين العام لـ«الهيئة»، عبد الحفيظ منصور لطرح هذه الأسئلة عليه، إلا أنّه لم يرد على الاتصالات والرسالة النصية. ولكن مسؤولين في «المركزي» يُدافعون عن «الهيئة» على اعتبار أنّها تُرسل دورياً التقارير إلى القضاء اللبناني «الذي لا يقوم بواجبه في البتّ بالملفات». أما مصادر الأخير فتردّ بأنّه «لا يُمكن التحقيق بتقرير مكتوب بطريقة مُبهمة. مثلاً: يُشتبه في أنّ X قام بتبييض الأموال. بل على الهيئة أن تُقرن التقرير بدليل يوضح من هو هذا الفرد، بأي تاريخ حوّل الأموال، ومن أين أتت». 

أبرز عوامل خلل هيئة التحقيق الخاصة أنّها ليست مُستقلة. فهي تتألف من حاكم مصرف لبنان، رئيس لجنة الرقابة على المصارف، قاضٍ، عضو أصيل وعضو رديف يُعينهما مجلس الوزراء بناء على اقتراح حاكم مصرف لبنان. هذا التضارب في المصالح بين المراقِب والمراقَب يُساهم في تعطيل عمل «الهيئة»، وقد ورد ذلك في التقرير المقدّم لوزير العدل.

 تقرير لجنة متابعة خطة عمل «فاتف»

اللجنة، برئاسة المحامي كريم ضاهر وعضوية كل من القاضي السابق جان طنّوس، القاضية رنا عاكوم، مستشارة وزير العدل المحامية لارا سعادة، المحامي محمد مغبط والخبير الاقتصادي محمد فحيلي، قامت بمراجعة تقرير تقييم «مجموعة العمل المالي» وتحليل النواقص المُحددة. 

ووضعت تقريراً يتألف من خمسة محاور، أبرز ما جاء فيها: 

  1. النيابة العامة التمييزية: إقرار قرار نظام للتعاون الدولي في المجال الجزائي واسترداد المُجرمين، إخضاع القضاة العاملين في النيابة العامة التمييزية ومحاكم الجنايات المالية إلى تدريب تخصصي إلزامي سنوي، تفعيل العمل الإحصائي القضائي، إعادة تشغيل نظام إدارة المحاكم الإلكتروني.
  2. الرقابة على كتّاب العدل: تفعيل الرقابة الميدانية والإدارية والمالية على كتّاب العدل، توحيد البرنامج الإلكتروني المُستخدم من قبلهم، استيفاء الأتعاب والرسوم في «بند أمانات الأتعاب القضائية» لدى وزارة المالية التي بدورها تُحوّل الأموال إلى كتّاب العدل…
  3. التعاون الدولي: إعادة تفعيل العمل بمشروع مكننة المحاكم وإعادة تشغيل تجميع البيانات في وزارة العدل...
  4. السجل التجاري: إعادة تفعيل المكننة ونظام المعلوماتية في السجل التجاري واستكمال مشروع الربط الالكتروني بين السجل التجاري ووزارة المالية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
  5. مقترحات من  بعض أعضاء اللجنة: الأول قدّمه القاضي جان طنّوس حول عمل هيئة التحقيق، والثاني قدّمه الدكتور محمد فحيلي حول تفاصيل ما يتوجب على لبنان إنجازه للخروج من القائمة الرمادية. 

التحديات التي تُرافق التقرير

يقول كريم ضاهر في حديث مع «كافيين دوت برس» إنّه تم إنجاز التقرير مع الملاحق الخاصة به «بسرعة التزاماً بمهلة وزارة العدل التي تقوم حالياً بمراجعته». يشرح أبرز ما جاء فيه، مُدركاً أنّ «ما قدّمناه قد لا يُعجب الكثيرين لأنّ كمية العمل ستزيد وهناك ملفات ستخلق أزمة. قد يشعر المدقّقون وكتّاب العدل ربمّا بإحراج ما. والمحامون كذلك في علاقتهم مع زبائنهم حيث أصبح يُفترض بهم أن يتقاضوا أتعابهم بتحويل مصرفي. ليس الهدف التسبّب بأذى لأحد، ولكن لم يعد هناك من مخرج آخر». 

هل نحن على اللائحة الرمادية بسبب حزب الله؟ في وقت يؤكّد سياسيون ذلك، ينفي ضاهر "عام 2015، أُدرجنا على اللائحة، لأننا لم نُطبّق قوانين تبييض الأموال ومكافحة الإرهاب. واليوم أيضاً لأنّنا لم نمتثل".

واحدة من الأمور التي لم يُعالجها تقرير اللجنة هي الرسوم التي يتقاضاها كتّاب العدل المُفترض بهم مكافحة تبييض الأموال. رسوم كتّاب العدل تُحدّد بمرسوم يُصدره وزير العدل. بعد الأزمة وانهيار العملة، لم يصدر جدول جديد، وبقي كتّاب العدل يتقاضون من الزبون بالدولار ويُصرّحون للمالية بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف 1500 ليرة لكل دولار. وحتى اليوم، لم تُصحّح وزارة العدل هذا الخلل.

هل اللائحة الرمادية أداة سياسية؟

من الصعب فصل السياسة عن عمل جميع المؤسسات والمنظمات الدولية التي تُسيطر على مجالسها وتمويلها الدول الكُبرى. مجموعة العمل المالي، هي إحداها. وقد شغلت وزارة الخزانة الأميركية في فترات سابقة رئاستها. يذكر تقرير لوكالة «رويترز» صدر عام 2021، أنّ «الفاتف» سمحت لبعض الحكومات «باستغلالها لشنّ حملات قمع ضدّ نشطاء حقوق الإنسان والمعارضين لها». ما كشفته «رويترز» أتى بعد أسابيع من اعتراف الدولة الهندية باستغلال نفوذها لإدراج باكستان ضمن اللائحة الرمادية. ويُضيف تقرير الوكالة أنّ «مجموعة العمل المالي تلعب دوراً محورياً في صياغة تشريعات الجرائم المالية وتحديد أولويات الحكومات الأمنية». وجود أهداف خارجية لا يُعفي لبنان من تحصين الساحة الداخلية، وإصدار القوانين اللازمة التي تحمي المُجتمع اللبناني، وتوفّر له استقرارا ماليا ونقديا. منذ سنوات يجري الحديث عن مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، من دون اتخاذ أي إجراء جدّي في محاربة هذه الجرائم. لا بل تحوّل ملف بهذه الأهمية إلى مادة للدعاية السياسية عملت على تكريس في لاوعي الرأي العام أنّ تبييض الأموال والإرهاب يعني حزب الله. في حين أنّ المليارات كانت تُهرّب وتُبيّض من دون حسيب أو رقيب.

 

اقرأ المزيد من كتابات ليا القزي