موازنة الـ2026: انتزاع صلاحيات مجلس النواب وإعفاء الأغنياء

وزير المال ياسين جابر
في كتاب «لُغز رأس المال»، ينتقد أستاذ الأنثروبولوجيا والجغرافيا في مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، ديفيد هارفي السياسات النيوليبرالية التي تُصرّ على تقديم موازنات «متوازنة» بين ما ستدفعه وما ستُحصّله، والمهووسة بالتقشّف المالي، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى خفض ما تدفعه الدولة على الرعاية الاجتماعية والصحية والتعليم وغيرها من الاستثمارات المُفيدة لعامّة المُجتمع، وتُضعف العمّال وتزيد من التفاوت الاجتماعي.
الموازنة المتوازنة هي بشكلٍ عام، ومن وجهة نظر هارفي، موزانات لتبرير خصخصة الخدمات العامة، واستخدام الديون كأداة لإعادة توزيع الثروة لصالح من يمتلكون الموارد ورأس المال على حساب عامّة الناس. لذلك، يُجادل هارفي بأنّ تحديد أولويات الإنفاق هي أهمّ من تحقيق توازن هو عملياً موجود فقط على الورقة والقلم.
تقديم وزارة المال في لبنان مشروع الموازنة العامة للعام 2026 إلى مجلس الوزراء الذي يُفترض أن يبدأ مناقشتها قبل إحالتها إلى مجلس النواب، مناسبة لاستحضار أفكار ديفيد هارفي. فهل على اللبنانيين أن يفرحوا لأنّ وزارة المال قدّمت موازنة متوازنة بين ما ستُحصّله وما ستُنفقه؟ أم يرتابوا حين يكتشفون كمية الإعفاءات الضريبية التي سيحصل عليها المقتدرون، وعدم فرض ضرائب على رؤوس الأموال والتعديات على الأملاك البحرية مقابل الإبقاء على الضرائب غير المباشرة التي تحمي الأغنياء وتُثقل كاهل الفقراء؟ هل عليهم أن يطمئنوا حين يعلمون أنّه يوجد أكثر من 7.8 مليار دولار (بين مبالغ بالليرة اللبنانية والدولار) في حساب الدولة لدى مصرف لبنان، ولكنّ الدولة ووزارة المال لا تُريد صرف الاعتمادات لاستكمال تنفيذ الطرقات، مشاريع المياه، الصرف الصحي، الكهرباء، الزراعة، التعليم، الخدمات الصحية، إعادة الإعمار، لأنّ الأساس هو وجود فريق داخل الحُكم يريد استخدام هذه الأموال لمعالجة خسائر مصرف لبنان والمصارف؟ هل يُمكن الحديث عن إصلاح وتنمية فيما المطروح مثلاً موازنة لوزارة الصناعة بحوالي مليون و700 ألف دولار مقابل 971 مليون دولار لوزارة الدفاع؟
قبل أسابيع، مرّ في مجلس الوزراء قرار لم يأخذ حقّه في التغطية، وهو تشكيل لجنة وزارية من وزراء الصحة، الشؤون الاجتماعية، المهجرين والدولة لشؤون التنمية الإدارية، لإنشاء صندوق هدفه «حثّ القادرين» من لبنانيين وأجانب على «التبرّع» للمساعدة في تغطية نفقات علاج حالات عدد من المرضى، وتحديداً الذين يُعانون من قصور في القلب وتستدعي حالتهم نقلهم إلى الخارج. الدولة اللبنانية، ممثلة بوزارة الصحة، لديها مسؤولية وواجب أمام المواطن أن توفّر الرعاية الصحية له، وتعمل كلّ ما بوسعها لتأمين الاعتمادات اللازمة حتى تقوم بتغطية التكاليف الاستشفائية. أما إطلاق حملات التبرّع، فهي مبادرات يقوم بها بالعادة أفراد أو جمعيات، لتأمين المساعدة لحالات مُعينة. ولكن تبقى هذه الحملات قاصرة عن مساعدة جميع المحتاجين لضيق الموارد وعدم امتلاكها داتا شاملة للحالات. يوجد لا عدالة اجتماعية في هذه الحملات، رغم النوايا الايجابية لمعظم منظميها. هذه «المواصفات الوظيفية» يجب أن تكون واضحة للجميع. وأن يكون أوضح أنّ هذه الخطوات الرديفة للمؤسسات الصحية العامة لا تُغني عن وجودها. المُستغرب هو تحوّل الدولة إلى كيان رديف للدولة نفسها، وقيامها بتوكيل مسؤولية المواطنين إلى أفراد مُقتدرين وذلك بحجة الموزانة المتواضعة لوزارة الصحة، التي كانت قبل الأزمة حوالي المليار دولار فيما يُخصص لها في موازنة العام 2026 حوالي 477 مليون دولار!
هذا مثال عن العقلية المنفعية التي لا تزال مُستحكمة في البلد، والتي لا تُريد تحقيق تنمية حقيقية وتحسين أوضاع المُجتمع، بل تركهم أسرى مساعدات وعيّنات مادية لا تُحقّق تنمية اقتصادية، وتبقى محصورة في عشرات آلاف الناس فقط، والتي عملت على وضع مشروع موازنة العام 2026.
بلغ إجمالي النفقات في مشروع الموازنة نحو 5 مليارات و650 مليون دولار، بزيادة 676 مليون دولار عن موازنة عام 2025 التي بلغت 4 مليارات و974 مليون دولار. ستُموّل هذه الزيادة من الضرائب غير المباشرة المفروضة على اللبنانيين.
خُفّضت الأموال الناتجة عن فرض ضريبة على الدخل والأرباح ورؤوس الأموال، مقابل رفع ضريبة الدخل على الرواتب والأجور. أي أنّ الموظف سيدفع من معاشه، المتآكل نتيجة التضخم في البلد، ضريبة أعلى لقاء تخفيض الضريبة التي يدفعها أصحاب العمل ورأس المال. وسيتم أيضاً تخفيض الضرائب على رؤوس الأموال المنقولة. إضافة إلى ذلك، سيدفع المواطنون ضرائب «مخفية» عدة، تأتي على شكل رسوم، كرفع الرسوم العقارية والطوابع ورفع الرسوم على السلع والخدمات الداخلية، أي زيادة الكلفة على المُستهلك في شراء الاحتياجات الأساسية وعلى المنتجين المحليين الذين سيتحججون بذلك لزيادة الأسعار. أما السلع «الكمالية»، فقد جرى تخفيض الرسوم عليها، كرسوم المسكرات والمشروبات الروحية وغير الروحية والتبغ والتنباك. كذلك، ارتفع كثيراً رسم الاستهلاك الداخلي للسيارات، أي الوقود، ما يُشير إلى النظرة القاصرة للدولة عن واقع الحال في المجتمع. فهي خفّضت الرسوم على استيراد السيارات، المفيد للتجّار بشكل أساسي، ولكنّها تمسكّت بالضريبة على المحروقات الذي سيُصيب السائقين العموميين والخصوصيين الذين لا يملكون بديلاً في وسائل النقل العامة موثوقاً ومضموناً.
وعلى هذا المنوال، يتضمّن مشروع موازنة عام 2026 تعديل نصوص قانونية، فيُسمح لوزير المال تقديم إعفاءات تصل إلى حدود 667 ألف دولار، على أن تُعطى صلاحيات تشريعية للحكومة (من غير المعلوم إن كان رئيس مجلس النواب، نبيه برّي سيقبل هذا التعدّي على الصلاحيات) لرفع قيمة الإعفاءات فوق السقف المحدّد لوزير المالية، حين يكون هناك من داعٍ من ذلك. بلغة أبسط، هذه الإعفاءات هي شطب الغرامات التي عادة ما يستفيد منها الشركات الكبيرة ورؤوس الأموال، المستفيدين أيضاً من تخفيض ضريبي!
ربما يكون المشروع الاستثماري الوحيد في مشروع موازنة الـ2026 هو صرف المزيد من الاعتمادات لمرفأ جونية. ورغم ذكر الفائدة الاقتصادية الناتجة عن هذه الاستثمارات، إلا أنّ المُحرّك الأساسي لها يبقى تأمين خطّ بديل عن مطار رفيق الحريري الدولي، في حال اندلاع حرب أو مواجهات، تستدعي نقل رعايا أجانب إلى الخارج.
رُحّلت اعتمادات العديد من المشاريع الحيوية إلى السنوات اللاحقة، بحجة تدهور سعر الصرف، كاستكمال جزء من اوتوستراد الشمال الحيوي، طريق التوفيقية رأس بعلبك - القاع، تجهيزات معلوماتية لربط وزارة التعليم بالمدارس العامة، برنامج أبنية الجامعة اللبنانية، إنشاء وتجهيز أبنية للمدارس العامة، إنشاء مشاريع مياه شرب وري، مشاريع الصرف الصحي، صيانة مجاري الأنهر، تأمين موارد مائية في ظلّ الحديث عن شحّ مائي ناتج بشكل أساسي عن سوء الإدارة وغياب الاستثمارات، وتطوير وتوسعة شبكة الاتصالات الثابتة المتدهورة… أما الأبرز، فهو رغم المبلغ الكبير المُخصص لوزارة الدفاع، عدم صرف اعتمادات وُصفت بالـ«مُلّحة» للجيش اللبناني تتعلّق بشراء عتاد، صيانة، تجهيزات، إنشاء بنى تحتية، تلقّي دروس واستشارات… ولكن يُطلب منه في الوقت نفسه تأمين حماية الحدود، والانتشار في الجنوب، ونزع سلاح حزب الله.
تُخفي نقاشات الموازنة دائماً السؤال الأهم: الإنفاق الحكومي بخدمة من؟ في لبنان من الصعب الحديث عن إنفاقٍ لخدمة اللبنانيين حين تُلزّم الطبابة للمُقتدرين، ويُرحّل تنفيذ مشاريع حيوية إلى ما بعد مُعالجة الأزمة النقدية، ويُعتبر الاستثمار في الصناعة والاقتصاد الحقيقي ترفٌ يُمكن تجاهله. كان يُمكن للمالية العامة تحقيق فائض عبر القيام بإصلاح ضريبي ورفع الرسوم على الكماليات. ولكن، هذا العام كما في كلّ عام، وُضعت موازنة تُكرّس حماية المنتفعين من هذه التركيبة ورؤوس الأموال. فشعارات الإصلاح وبناء الدولة القوية تقف عند حدود المصالح المشتركة للقوى الحاكمة.