السلام والمناطق الاقتصادية لا يؤديان إلى التنمية: التفوق الإسرائيلي أولا وأخيرا

يوجد فريق في لبنان يعتقد - أو يُريد أن يعتقد - بأنّ نزع سلاح حزب الله وإضعافه سيؤدّي إلى نمو اقتصادي وتنفيذ مشاريع وتحقيق استقرار وبحبوحة. ويُريد هذا الفريق الذي يقول أعضاؤه إنّهم تعبوا من الحروب والعقوبات، تجربة التعايش مع اسرائيل كما فعلت دول عربية أخرى. فأتاهم اقتراح إدارة الرئيس دونالد ترامب إنشاء «منطقة اقتصاديّة» على امتدادِ قرى جنوب لبنان الحدودية، كحبة الكرز على قالب الكيك. منطقة لا يوجد فيها سكّان، تُخصّص فقط للاستثمارات والصناعة والتجارة. تخضع لمراقبة إسرائيلية - أميركية، يعني وضع الشروط حول هوية المُستثمرين ونوع أنشطتهم والعاملين فيها. ولكن في الوقت نفسه، قدّمها المبعوث الأميركي توم برّاك كـ«بديلٍ عن الدعم الإيراني المالي لحزب الله». كيف تكون بديلاً إن كان ممنوعا على المستفيدين من الدعم المالي الإيراني ، الاستفادة من هذه المنطقة؟ ولماذا قد تسمح اسرائيل بإقامة منطقة اقتصادية على بعد أمتارٍ منها تؤدي إلى انتعاش اقتصادي في لبنان وتجعله منافساً لها؟ أين هي مصلحة إسرائيل في تحوّل الجنوب اللبناني إلى منطقة متطورة تكنولوجياً واقتصادياً وتجارياً وصناعياً؟ وإذا كان المسؤولون الإسرائيليون يُجاهرون بنيتهم تحويل الجنوب إلى أرض من دون سكّان، من سيُشغّل هذه المنطقة الاقتصادية ويستفيد منها إن لم يكن أهلها؟ أم يكون من ضمن المشروع فرض سيطرة إسرائيلية عليها وتشغيلها عمّالاً من فلسطين المحتلة وقطاع غزّة فيها برواتب متدنية؟ لماذا يكون وضع لبنان أفضل من الأردن ومصر اللتين عقدتا اتفاقيتي سلام مع اسرائيل، وتضمنان مصالحها، ورغم ذلك لم تلتزم اسرائيل ببنود الاتفاقيتين معهما وبقيتا عملياً دولتين هشّتين اجتماعياً واقتصادياً؟
مصر: سلام بلا تنمية
التجربة المصرية بعد «كامب ديفيد» خير مثال على وهم «السلام مقابل الازدهار». صحيح أنّ مصر استعادت سيناء وضمنت مساعدات عسكرية أميركية سنوية، لكن التنمية الاقتصادية لم تتحقّق. فالمساعدات كانت تُصرف إمّا على الجيش وإمّا على خدمة الدين العام، لا على مشاريع استراتيجية طويلة الأمد. وحتى سيناء التي عادت إلى السيادة المصرية، فُرضت عليها قيود عسكرية حدّت من استثمار مواردها. وفي مجال الزراعة، أثبت مشروع «المزرعة النموذجية» الذي اعتمد بذوراً إسرائيلية أنّه كان وبالاً بعدما تبيّن أنّ هذه البذور تسبّبت بأمراض خطيرة في الأراضي الزراعية. أمّا على صعيد الطاقة، فقد تحوّلت مصر من مصدّر للغاز في العقد الأول من الألفية إلى مستورد للغاز الإسرائيلي منذ 2020، لتعيد تسييله وتصديره لأوروبا، ما جعلها مجرد ممرّ يخدم مصالح العدو بدلاً من أن تُصبح قوة إقليمية للطاقة.
الأردن: سلام مرهون بالمياه والديون
في الأردن، اتفاقية وادي عربة عام 1994 رُوّج لها كمدخل للتنمية، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى أداة ابتزاز اقتصادي ومائي. فالأردن، ثاني أفقر دولة في العالم مائياً، لم يحصل على حقوقه الكاملة. بقيت الباقورة والغمر محتلتين حتى 2019، وخلال نصف قرن استنزفت اسرائيل مياهها الجوفية عبر مئات الآبار. الاتفاقية سمحت للإسرائيليين بحفر آبار جديدة تعويضاً عن كل بئر يجفّ، بينما مُنع الأردن من ذلك. النتيجة أنّ المملكة باتت تشتري مياهها من العدو. فضائح وصلت حدّ تزويد الأردن بمياه ملوّثة عام 1998. أمّا المناطق الصناعية المؤهلة (QIZ)، التي كان يُفترض أن تفتح أبواب السوق الأميركية، فشُرطت بإدخال مكوّنات إسرائيلية، فتحوّلت إلى وسيلة لدمج اقتصاد الأردن باقتصاد اسرائيل أكثر مما ساهمت في تقوية بنيته الداخلية. واليوم يعاني الأردن مديونية مرتفعة وبطالة واسعة، فيما يُستخدم العامل الاقتصادي كأداة ضغط لدفعه نحو خيارات سياسية تتقاطع مع مشروع «الوطن البديل» وترحيل الفلسطينيين.
الخليج واتفاقيات أبراهام
اتفاقيات أبراهام رُوّجت هي الأخرى كمنصّة للاستثمار والرخاء، لكن نتائجها حتى الآن تكشف هشاشتها. البحرين مثلاً لم تحقّق طفرة اقتصادية رغم توقيعها الاتفاق، بل ارتفع دينها العام بشكل كبير. الإمارات استثناء لأنّها ملتقى شعوب عدّة، متطورة تكنولوجياً، ولديها خزّان نفطي كبير، لكن حتى ذلك لا يخرج عن إطار تعزيز التفوّق النوعي لاسرائيل على حساب بقية المنطقة. مبدأ «السلام الاقتصادي» هنا ليس إلا إعادة إنتاج لصيغة قديمة: العرب يُقدّمون الأسواق واليد العاملة والموارد، فيما إسرائيل تملك التكنولوجيا والقرار وتحتكر الأرباح. وكما قال وزير خارجيتها الأسبق أبا إيبان: الهدف أن تكون علاقة العرب بـإسرائيل كعلاقة أميركا اللاتينية بالولايات المتحدة، أي علاقة تبعية مستمرة.
وهم المناطق الاقتصادية
البنك الدولي نفسه نشر دراسة عام 2017 شملت 600 منطقة اقتصادية حول العالم، تبيّن أنّ معظمها لم يحقق التنمية الوطنية الموعودة، بل صار عبئاً على الدول المضيفة. النجاح الاستثنائي في الصين لم يكن نتيجة «الوصفة السحرية» بل لظروف سياسية واستثمارات أجنبية ضخمة. أما في دول أخرى، فتحوّلت هذه المناطق إلى أدوات للمضاربة السياسية ومصادر هدر. في الأدبيات الاقتصادية يُسمّى هذا النوع من المشاريع «الفيل الأبيض»: مشروع ضخم ومكلف لا يقدّم منفعة حقيقية، بل يستهلك الموارد بلا مردود.
المنطقة الاقتصادية في الجنوب
نظرياً، يمكن للجنوب أن يستفيد من المنطقة الاقتصادية إذا تمّ السماح للشركات المحلية بالاستثمار والتشغيل، وتوفّر بنية تحتية حديثة، وسُهّلت الإجراءات أمام المبادرات الصغيرة والمتوسطة. قد تظهر فرص عمل جديدة، وتُنعش بعض القطاعات الصناعية أو التجارية، ويُسجّل بعض النمو في الناتج المحلي. لكن هذه الفوائد غالباً ستبقى محدودة إذا ظلّت المنطقة تحت رقابة إسرائيلية مباشرة، وفرضت شروط صارمة على المستثمرين، وجرى تشغيلها بعمالة مستقدمة برواتب منخفضة، كما حصل في حالات سابقة. بالتالي، من المرجح أن تكون المنطقة مجرد واجهة استثمارية تُستخدم لأغراض سياسية وتجارية خارج سيطرة لبنان، فتكون وعود التنمية مُجرّد شعارات بلا أثر حقيقي على حياة السكان المحليين.
حتى لو افترضنا أنّه سيتم إنشاء منطقة اقتصادية في الجنوب، وليس الأمر مُجرّد اقتراح لتمرير الوقت من الأميركيين، فهذا لا يعني بالضرورة تحقيق تنمية حقيقية. التنمية الفعلية تحتاج سيادة اقتصادية وسياسية، إصلاحات جذرية في الدولة، إدارة موارد طبيعية مستدامة، وخطة متابعة طويلة المدى. من دون هذه المقوّمات، سيكون للمنطقة الاقتصادية أثر سلبي، فلا تتحسّن حياة الناس، وتتعرض البيئة للاستغلال والتلوث، فيما تستمر أزمة المياه وانقطاع الكهرباء الناتجة عن نقص الاستثمارات وسوء الإدارة. يضاف إلى ذلك غياب قطاع مصرفي سليم يمنح المستثمرين الثقة، وهي أصلاً عوامل يجب أن تتوافر قبل الحديث عن مناطق اقتصادية. كلّ ما سبق يجعل هذا الاقتراح مجرد طعم لطرد أبناء الجنوب من أرضهم وتحويلها إلى منطقة تخدم مصالح إسرائيل والجهات المموّلة، لا مصالح لبنان أو سكانه.
من هنا، يظهر أنّ مشروع «المنطقة الاقتصادية» في الجنوب ليس إلا نسخة جديدة من هذا الفيل الأبيض. فكيف يمكن لمنطقة تُقام على حدود اسرائيل، وتخضع لرقابته وشروطه، أن تتحوّل إلى فرصة تنمية فعلية للبنان؟ ولماذا يُفترض أن يقبل الجنوبيون بأن يكونوا متفرّجين على أرضهم تُدار من الخارج، فيما قد يُستقدم عمّال غرباء برواتب متدنية لتشغيلها؟ التجارب العربية السابقة تقول بوضوح: لا وعود كامب ديفيد تحقّقت، ولا أوسلو جعلت غزة «سنغافورة الشرق»، ولا ورشة المنامة أغدقت استثمارات. كلّها عناوين كبيرة لتسويق وهم التنمية بينما النتيجة واحدة: إبقاء اقتصادات المنطقة ضعيفة وتابعة، وشعوبها رازحة تحت الأزمات. فالتنمية التي تُعتمد على إشراف أجنبي مباشر، أو ربطها بشروط سياسية خارجية، تتحوّل إلى أداة ضغط على الدولة والشعب، وتبقى الموارد المحلية والعمالة اللبنانية في أدنى مستويات الاستفادة، بينما تذهب الأرباح والقرار إلى الخارج.