معالجة الفجوة المالية: عودة إلى دَين رياض سلامة!

تنتظر الحكومة منذ أسابيع أن يُرسل إليها حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد رؤيته لاقتراح قانون الفجوة المالية (الفارق بين التزامات مصرف لبنان وموجوداته)، لتقوم بدورها بدرسه قبل تحويله إلى المجلس النيابي. إلّا أنّ الحاكم وبعد أكثر من تأجيل، وعد بتسليمه في الأول من أيلول، قبل أن يطلب تأجيلاً جديداً لمدّة أسبوعين.
التأجيل لا يتعلّق بالانتهاء من إتمام الحسابات وتوزيع الخسائر، بقدر ما هو كيفية إلزام الدولة بدفع الدين المُسجّل عليها. فالمصرف المركزي - وبناء على نصيحة عدد من النواب - يُحاول التفلّت من تحمّل مسؤولية توزيع الخسائر، على أن يجعل الحكومة هي من تعترف بوجود دين على الدولة وتلتزم، مع المجلس النيابي، بتسديده، فلا يظهر القطاع المصرفي كما لو أنّه هو من يُحمّل عامة المجتمع (مودعين وغير مودعين) والأجيال المُستقبلية مسؤولية تسديد الخسائر. لذلك، من المتوقع أن يكتفي «المركزي» بإرسال أرقام وتوصيات إلى مجلس الوزراء، وليس خطة كاملة.
أهمية مشروع قانون الفجوة المالية في مصرف لبنان أنه سيمثل الخطوة الأولى على طريق الخروج من أزمة انهيار القطاع المصرفي، وحل ما يُسمى بـ«أزمة أموال المودعين». لكن في الحالة اللبنانية، هذه الأهمية تنبع من كون الطبقة المهيمنة في لبنان ترى أن مشكلة «أموال المودعين» وانهيار القطاع المصرفي سببهما أن المصارف أودعت دولارات المودعين في مصرف لبنان، وأن الأخير استخدمها لتمويل الدولة. وهذه النظرة تهدف إلى إعفاء القيمين على القطاع المصرفي من مسؤولياتهم عن انهياره، إذ ترى أن الحل يبدأ بتحمّل «الدولة» مسؤولية «رد الأموال» إلى مصرف لبنان، لـ«يردّها» بدوره إلى المصارف، لتردّها في ما بعد إلى المودعين!
الدين العام
انخفضت القيمة الفعلية للدين العام من نحو 97 ألف مليار ليرة و40 مليار دولار (بين سندات دين بالعملات الأجنبية «يوروبوندز»، والفوائد عليها، وقروض لصالح مؤسسات دولية) إلى ما بين 12 و14 مليار دولار أميركي حالياً. وذلك نتيجة مزيج بين الانهيار في قيمة العملة المحلية والانخفاض في القيمة السوقية لسندات «اليوروبوندز»، أي السعر الذي يتم تداول السندات به في السوق. يعني أنّه في عملية توزيع الخسائر، يجب أن تتحمّل الدولة مسؤولية هذه الـ12 أو 14 مليار دولار. ولكنّ مصرف لبنان يُريد أن يُحاسبها على أساس دين بقيمة 30 مليار دولار، بعد إضافة مبلغ الـ16.6 مليار دولار، المبلغ الذي أضافه الحاكم السابق، رياض سلامة في شباط الـ2023، إلى بند «قروض للقطاع العام» في ميزانية مصرف لبنان، كدين على الدولة بدل الدولارات التي «صرّفها» مصرف لبنان لمؤسسة كهرباء لبنان، رغم ان الحكومات كانت تدفع هذه الأموال لمصرف لبنان، بالعملة التي تسدّد بها للقطاعين العام والخاص، أي الليرة اللبنانية. وبذلك، يكون النقاش قد عاد إلى المُربّع الأول الذي انطلق منه بعد حصول الانهيار رسمياً في تشرين الأول عام 2019، والانقسام الرسمي بين من يُريد توزيعاً عادلاً للخسائر وإجراء محاسبة جدّية لسياسات السنوات الماضي، وبين من باتوا يُعرفون باسم «حزب المصرف»، الذين استفادوا من نظام الطائف الاقتصادي، ويُريديون نقل جميع الخسائر إلى ضفّة الدولة.
الخلاف حول حجم الدين العام
عام 2020، أصدر المستشار والمحاضر الاقتصادي، توفيق كسبار (عمل سابقاً مديراً للإحصاءات والدراسات الاقتصادية في مصرف لبنان) «الانهيار المالي في لبنان: دراسة تشريحية»، من بين الأمور التي ذكرها فيها أنّه بين السنوات 2009 - 2019، عوض أن يُقرض مصرف لبنان الدولة الدولارات اللازمة كانت هي من يُقرضه، عبر عملية مبادلة : «المركزي» يُعطي الدولة سندات خزينة بالليرة يملكها، ووزارة المالية تُصدر سندات «يوروبوندز» تُعطيها لمصرف لبنان. الأخير يبيع سندات «اليوروبوندز» في السوق، جزء من الدولارات يستخدمها لتمويل شراء الفيول والجزء الآخر يحتفظ به، «وفي فترة لاحقة باع اليوروبوندز إلى المصارف». أقرضت الدولة مصرف لبنان مبالغ بقيمة 17.5 مليار دولار، واقترضت منه مبالغ بقيمة 13 مليار دولار (سُدّدت جميعها بالليرة وأُودعت في حساب في مصرف لبنان يوم كان هناك استقرار في سعر الصرف، وكان يُمكن مبادلتها بالدولار من دون خسارة أي من قيمتها)، «لتكون النتيجة إقراضاً صافياً من الحكومة للمصرف يُساوي 4.5 مليارات دولار»، وفق ورقة كسبار.
استعادة دراسة كسبار أساسية في هذه المرحلة التي تُعالج فيها الخسائر، فببساطة لا يُمكن لحاكمية مصرف لبنان أن تتذكّر بعد أربع سنوات من حصول الانهيار، وجود 16.6 مليار دولار لها بذمّة الدولة ومؤسسة كهرباء لبنان، بحجّة انهيار سعر الصرف. ولا يُمكن بعد سنوات من عدم تسجيل أي ديون على الدولة، وتصديق مجالس النواب على موازنات عامة «نظيفة» من هذا البند، أن يظهر هذا البند فجأة، ومن دون تحقيق يُحاسب من أضافه زوراً أو يُدين من أخفاه عمداً. بحسب المعلومات، لا تزال الحكومة ترفض تسجيل الـ16.6 مليار دولار ديناً على القطاع العام. علماً أنّه في المقابل، يؤكّد مسؤولون في القطاع المصرفي أنّه «في التقارير التي كانت تُقدّم لحاكم البنك المركزي رياض سلامة كان هذا المبلغ موجوداً، ولكنه لم يُظهره في الميزانيات نصف الشهرية، وقد يكون ذلك بناءً على طلب الحكومة حتى لا تظهر الدولة عاجزة».
سيناريوهات الحلّ
الودائع بالعملات الأجنبية تبلغ 84.5 مليار دولار. بينما تبلغ فجوة مصرف لبنان 72.8 مليار دولار. لدى «المركزي» مبالغ نقدية بقيمة 11.69 مليار دولار، هي كلّ ما يستطيع استخدامه فوراً، وهذا ما يُعرف بالاحتياطي. وإذا احتسبنا قيمة الذهب حتى 15 آب 2025، فيكون العجز (أو الفجوة) حوالي 42 مليار دولار. سيُحاول مصرف لبنان «الخروج بميزانية متوازنة بين الأصول والالتزامات، على الأقلّ أن لا نكون نظرياً مكسورين أو لدينا مشكلة»، يقول مسؤولون في القطاع المصرفي.
هدف سعيد، كما روّج في الإعلام استباقاً لإرسال الأرقام إلى مجلس الوزراء، أن يُخفّض الفجوة إلى حدود الـ35 مليار دولار.
الأفكار التي يتمّ تداولها في مصرف لبنان تشمل:
دراسة قيمة الشيكات التي استُخدمت لتسديد ديون، أو أُودعت في الحسابات، والدفع للأفراد القيمة الفعلية للشيك في اليوم الذي استُخدم فيه. مثلاً إذا باع أحدهم شقة بمليون دولار بموجب شيك كانت قيمته يومها 30%، سوف يدفع له مصرف لبنان ما قيمته 300 ألف دولار. قيمة هذه العمليات تبلغ حوالي 30 مليار لولار، «نستطيع أن نُخفّضها إلى 10 مليارات دولار».
تحديد فائدة 2% لكل الحسابات بين الأعوام 2014 - 2020، وشطب كلّ ما يفوق هذه النسبة، على أن يكون «الوِفر» المُحقق ما بين 6 و7 مليارات دولار.
البحث جدّياً في تسييل جزء من محفظة مصرف لبنان العقارية البالغة 1837 عقاراً، ومصرف إنترا، وشركة "طيران الشرق الأوسط"، وكازينو لبنان. التقديرات الأولية تُشير إلى إمكانية الحصول على 15 مليار دولار نتيجة هذه العمليات.
يُريد مصرف لبنان من المصارف أن تدفع مُجتمعةً ما لا يقلّ عن 8 مليارات دولار عن كلّ سنة منذ الـ2019.
ويأمل أن يتوصّل في المفاوضات مع الدولة اللبنانية إلى أن تدفع على الأقلّ نصف قيمة الـ16.6 مليار دولار، أي حوالي 8 مليارات دولار، أو عليها المساهمة في إعادة رسملة مصرف لبنان (يعني إصدار سندات دين جديدة تُستخدم لصالح مصرف لبنان). ويعتبر «المركزي» أنّ الدولة قادرة بالفائض المُسجّل في حساب المالية العامة لدى مصرف لبنان، وبتفعيل الجباية أن تردّ الدين. يعني الاستمرار في سياسة وضع المجتمع في خدمة الديون والفوائد عليه، من دون دفع ليرة على المشاريع الاستثمارية.
وفق هذه الرؤية، يعتبر مصرف لبنان أنّه يُمكن سداد الودائع التي تصل إلى 300 ألف دولار وليس 100 ألف دولار، خلال مدة ما بين 6 و7 سنوات. أما الودائع التي حُوّلت من الليرة إلى الدولار بعد الـ2019، فسيتم تأجيل البتّ بها، وهي تبلغ حوالي 15 مليار دولار. علماً أنّ مصرف لبنان، خلال ولاية نائب الحاكم الأول، وسيم منصوري سمح للمصارف بأن تتخلّص من «اللولار» في محافظها. حُرّرت هذه المبالغ للزبائن على سعر صرف 15 ألف ليرة للدولار، وحملوها إلى السوق حيث بدّلوها بدولارات. وكان «المركزي» جاهزاً في السوق للمّ هذه الليرات عبر الصرّافين المُعتمدين من قبله. اتُخّذ هذا القرار بدايةً لمُساعدة أحد المصارف على تخفيف الأعباء في ميزانيته، قبل أن يُفتح - بعد ضغوط مورست على منصوري - لكلّ المصارف.
وكان لافتاً في هذا الإطار، تصريح وزير المالية ياسين جابر لمحطة «الحدث» أنّ الودائع فوق الـ 100 ألف دولار سيتم تحويلها إلى سندات قابلة للتداول مع فوائد تُتيح لحاملها بيعها في السوق، في وقت أنّ المركزي يبحث ردّ الودائع بالتقسيط حتى حدود الـ 300 ألف دولار. جابر، الذي من المفترض به أن يُمثّل مصالح الدولة اللبنانية، اعتبر أنّه «لا يُمكن لأي نظام مصرفي إعادة أموال المودعين في الوقت نفسه». مشكلة الطرح أنّه خلق ديونا جديدة، وسندات في قطاع مالي وبلد يفتقد الثقة. وبالتالي، ستتحوّل هذه السندات خسائر جديدة بعنوان آخر.
مكانك راوح
بعد خمس سنوات من بدء البحث في مخارج للأزمة لا يزال النقاش يدور عند المُربّع الأول: من يتحمّل مسؤولية الخسائر المالية وانهيار الليرة وبؤس المُجتمع؟ وما هي الأرقام التي هُدرت؟ ثلاث حكومات، ثلاثة حُكّام مصرف مركزي، ثلاثة وزراء مالية، لا أحد منهم يملك جواباً. مع كلّ ولاية، يُعاد البحث إلى نقطة الصفر، مع تحويل الأزمة إلى وُجهة نظر وخلاف سياسي. المعضلة الحقيقية تكمن في أنّ المنتفعين من النظام لا يزالون حاضرين، وبقوة، في كلّ مفاصل القرار، لا بل زادوا تأثيراً مع تسلّمهم مناصب حسّاسة في الدولة.