نزف إستقالة قضاة بات على المحك

نزف إستقالة قضاة بات على المحك

صدر في العدد الأخير في الجريدة الرسمية مرسوم إنهاء خدمات القاضية ساندرا المهتار بناء لطلبها، بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى على الاستقالة التي كانت تقدمت بها في آب الماضي وبتها أخيرًا. وهي القاضية الثالثة التي قُبلت إنهاء خدماتها منذ نحو ثلاثة أشهر الى اليوم، بعد استقالة رئيس محكمة التمييز العسكرية، والمحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامر ليشع ،الذي انصرف الى وظيفة اخرى، وقاض حديث العهد في القضاء من حملة الدكتوراه في القانون، وسبق ان كان محاضرًا في إحدى الجامعات الخارجية.

 تكاد حركة استقالة قضاة ان تشكل ظاهرة غير صحيّة مع مغادرة القاضية المخضرمة المهتار هذا السلك بعد اكثر من 24 عامًا امضتها في هذا السلك الذي اغنته علمًا وخلقًا وعملًا دؤوبًا على أمل تحسين اوضاع القضاء معنوّيًا وماديًا وشكلًا فحوى كتاب استقالتها، ما ينذر  بخشية من ان تكرّ هذه السبحة.

      وسبق نشر مرسوم  إستقالة المهتار  نداء وجهه نادي القضاة  في 19 تشرين الثاني الماضي للتطلع  الى أوضاع هذه المؤسسة. وألمح الى وقف العمل. وبقي هذا النداء من دون صدى حتى الآن. واستمر الواقع نفسه قائمًا، وكذلك المعوقات. والنتيجة كانت ان خسرت هذه المؤسسة قاضية من الطراز الرفيع نذرت نفسها للقضاء،غادرت بخيبة كبيرة بدل توفير الظروف المؤاتية لعملها.ومع  غياب الحلول ثمة استشعار فعليّ من ان يكون حبل الاستقالات على الجرار إن لم تتلقف الدولة الصدى، وإن لم يجر وضع خطة طوارئ من مجلس القضاء الأعلى  لمقاربة هذا الواقع. فالمشكلة لا تتصل بالظرف المادي فحسب، إنما تتجاوزه الى المعنوي واللوجستي والنفسي وإنتفاء مقومات العمل الاساسية. هذه المطالب تتكرر  منذ خمسة أعوام مع انهيار الوضع الإقتصادي والمالي اللذين كشفا المأزق اللوجستي في قصور العدل في الغالب.وهو اكثر ما عبرت عنه القاضية المهتار في كتاب الاستقالة "تولي القضاء تكليف جسيم.فكيف بالحري بتوليّه في لبنان، حيث الازمات المتعاقبة والمشاكل المتراكمة والحلول المفقودة والقوانين المتناقضة والطوائف المتنازعة، فضلًا عن ذلك على  القاضي العادي ابتكار الحلول المستحيلة لمشاكل يقع حلّها على عاتق جهات اخرى كوزارتي العدل والداخلية. من ذلك نقص الموارد المادية والبشرية الأساسية لسير العمل القضائيّ او حتى انعدامها من كهرباء وقرطاسية ودورات مياه ونظافة مكان العمل واستبدال االمباني المهددة بالانهيار وشراء النصوص القانونية والتواصل مع المؤسسات الرسمية، والمؤسسات التي لا يتّم تأمين سير العمل القضائي الا بحسن تعاونها وبجهوزيتها لتنفيذ القرارات االقضائية على اختلافها.كما عليه الصمود في وجه طغيان اللامساواة وحرمانه،، وغيره، من حقوقه الاساسية في الراتب والتعويض والفرص الوظيفية والدورات التدريبية".

منذ عام 2017 شغلت القاضية المهتار مركز قاضية تحقيق في جبل لبنان. وعيّنت في التشكيلات الأخيرة التي صدرت في آب الماضي، وقبل ثلاثة ايام من طلبها لإنهاء خدماتها، مستشارة في محكمة الاستئناف في الجبل. وكتبت" قاسيت الامرين من عدم إنصافي وتهميشي واقصائي عن بعض المواقع .عملت واجتهدت وكافحت وصبرت ورغم الصعاب ثبتُّ الى ان أسقم قلبي فسقِمت... اليوم وبعد كل ما عانيته شخصيًّا نتيجة ظروف العمل غير الانسانية وغير السليمة التي ترافق العمل القضائي في لبنان بشكل عام  وفي قصر العدل في بعبدا بشكل خاص وانا اعمل فيه منذ عام 2009 ... طلبنا حلولًا تمكننا من أداء عملنا بسلامة، وتحافظ على صحة وكرامة كل من يعمل ويقصد قصر العدل من دون جدوى ،فإنه لم يعد بإمكاني الاستمرار في تحمل ما حُمِّلته،ولم أعد أرغب بالمكابدة انتظارًا لحلول لن تأتي".

السلطة القضائية اليوم غير محصنة. والتحصين يبدأ بتحسين موازنتها ،التي لا تزال في منزلة الصفر، لا بإنقاصها، كما حصل.ففي العام شكلت 0,58  من اصل الموازنة العامة،وتدنت الى 0,43 في الموازنة الجديدة . فكيف للقاضي ان يصمد ويثابر. الا يتأثر بأن يسمع ان راتب احد المسؤولين المعينين أخيرًا 30 الف دولارًا؟، أي ما يعادل عمل يوم واحد من راتب القاضي الشهري . او بأن يسمع برواتب هيئات اخرى. فيما هو لا يمكنه قانونًا القيام بأي عمل آخر سوى استاذ محاضر في الجامعة. وهذه فرصة محدودة في العدد.

ومرة اخرى نبّه نادي القضاة من "نزف مستمر اصبح نهجًا من المرجح أن يتفاقم". وسأل مجلس القضاء عن "خطته وحلوله لوقف هذه المجزرة، طالبًا منه ان "يبادر الى دعوة القضاة في اقرب وقت ممكن الى جمعية عمومية طارئة للتباحث مع القضاة عن اوضاعهم كافة لوضع خطة سريعة وعملية تهدف الى تحسين وتحصين وضع القضاة ورفع الصوت بإتجاه السلطتين التشريعية والتنفيذية للحد من نزف نخبة القضاة ولمحاولة إعادة من ترك السلطة القضائية اليها".

اقرأ المزيد من كتابات كلوديت سركيس