مافيا الدواء المجهولة تتحكم بتجارة الموت الصامتة
في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة، تحوّل الدواء الذي يفترض أن يكون أمل الشفاء سلعة قد تحمل الموت. يتصاعد في لبنان خطرٌ صحي صامت، يتمثّل في انتشار الأدوية المهرّبة والمزوّرة التي تتاجر بصحة المواطنين وأرواحهم. هذه الظاهرة ليست تجارةً عابرة، بل هي حلقة من حلقات فسادٍ عميق يطال مفاصل القطاع الدوائي بأكمله، من المنافذ الحدودية إلى رفوف الصيدليات، في ظل غياب الرقابة الفعالة واستمرار صمت "المافيا المجهولة" التي تتحكم بهذا السوق الخطير.
تشير تقارير وتصريحات رسمية إلى أن الأدوية المهرّبة والمزوّرة تصل إلى السوق اللبناني عبر طرقٍ متعددة، تشكل تهديداً مباشراً للصحة العامة.
مصادر التهريب الرئيسية التي حددها نقيب الصيادلة عبد الرحمن مرقباوي تشمل دولاً مجاورة مثل سوريا وتركيا وإيران ومصر، حيث تدخل عبر المناطق الحدودية وتباع في صيدليات غير مرخّصة أو محلات عشوائية. في المقابل، يرى نقيب مستوردي الأدوية جو غريب أن التهريب يمكن أن يأتي من جهات عديدة، بما في ذلك دول مثل إنجلترا، لكنه يشير إلى أن حجم هذه الظاهرة تراجع في شكل ملحوظ وفقاً للمعلومات المتوفرة.
يتخذ التزوير أشكالاً أكثر خبثاً وأقل وضوحاً. وفقاً لمصادر مطلعة لـ"كافيين دوت برس"، اذ يقوم بعض المستوردين بالتوجه إلى مصانع أدوية في أوروبا، وخصوصاً في إيطاليا وفرنسا، لطلب إنتاج دواء يماثل المنتج الأصلي لكن بجودة أقل، وذلك لتحقيق أرباح أكبر في السوق اللبناني. كما يُشاع عن ممارسات خطيرة أخرى مثل تغيير تاريخ صلاحية الأدوية المنتهية، وهو مسار يبدأ، وفقًا للبعض، من بعض الشركات والموزعين وصولاً إلى بعض الصيادلة والمستشفيات.
الجهود الرقابية والتحديات المستمرة
في مواجهة هذا الخطر، تبذل عدة جهود رسمية ومهنية للتصدي للظاهرة، لكنها تواجه عقبات جمة.
يؤكد مرقباوي لـ"كافيين دوت برس"، وجود آليات رقابية لمكافحة هذه الظاهرة، قائلًا "النقابة تمتلك جهاز تفتيش يقوم بجولات مُفاجئة على الصيدليّات للكشف عن الأدوية المهرَّبة". ويوضح الإجراءات المتّخذة "في حال ضبط أدوية مُهرَّبة، تقوم وزارة الصحة بمصادرتها ورفع محضرٍ إداريٍ في حقّ الصيدليّة، ثم يُستدعى الصيدليّ للتحقيق أمام النقابة، وقد يُحال على المجلس التأديبي النقابي للمحاسبة في حال ثبوت المخالفة".
وعن مصير الأدوية المهربة والمصادرة، يكشف مصدر من وزارة الصحة لـ"كافيين دوت برس"، أنه "يتم اتلافها عبر الحرق في محارق خاصة أو دفنها صحيًّا تحت إشراف وزارة الصحة والجمارك، لضمان عدم وصولها للسوق".
وبدوره، يُبدي غريب لـ"كافيين دوت برس"، تفاؤلًا في شأن جودة الأدوية في السوق، قائلًا "لا يمكن لأي مصنع عالمي إنتاج دواء بمواصفات أو جودة أقل خصيصاً للسوق اللبناني"، مؤكدًا أن "كل دواء يخضع لمعايير ثابتة من حيث التركيبة والتحاليل والفعالية". ويرى أن فكرة طلب "طبخة خاصة" للبنان غير وارد.
ويكشف غريب عن أداة رقابية هامة للمواطن، وهي "التطبيق الرسمي لوزارة الصحة (MOPH APP)، الذي يتيح للمستخدم التحقق من شرعية الدواء عبر مسح الباركود الموجود على العلبة، اذ يحمل كل دواء رقمًا تسلسلياً فريداً يؤكد دخوله البلاد عبر القنوات القانونية".
لكن هذه الجهود لا تخلو من تحديّات. يُشار إلى أن نظام "MediTrack" لا يحارب التهريب والتزوير في شكل كامل، إذ "لا يتيح التأكد من جودة" الدواء، والتي تتطلب فحوصاً مخبرية. كما أثار النظام خلافًا بين وزارة الصحة ونقابة الصيادلة، اذ تعترض النقابة على توسيعه ليشمل الأدوية غير المدعومة، محذرةً من أن ذلك قد يؤدي إلى إقفال صيدليات وحرمان المرضى من دوائهم.
لماذا تنتشر هذه الأدوية؟
يُعزى انتشار الأدوية المهرّبة والمزوّرة إلى أسباب معقدة تتشابك فيها الظروف الاقتصادية مع ثغرات النظام الرقابيّ، فقد أوضح وزير الصحة ركان ناصر الدين أن صعوبة تأمين الدواء، خصوصاً أدوية الأمراض السرطانية والمستعصية باهظة الثمن، في ظل تقلص ميزانية الوزارة، فتح باباً للمواطن للسعي للحصول على الدواء بأي طريقة كانت. وتشير مصادر في وزارة الصحة، إلى ممارسات يستغل فيها بعض الصيادلة أزمة الدواء، فيعمدون إلى التذرع بعدم وجود الأدوية لدفع المريض لشراء أنواع أغلى، أو يعرضون الأدوية غير المدعومة بأسعار مضاعفة.
كذلك انتشرت صفحات وحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي "لتأمين الأدوية" غير المتوفرة في لبنان، ويتم شحنها من دول مثل تركيا ومصر، وأحياناً بأسعار أعلى.
لذا تكمن المعضلة الحقيقية في عدم القدرة على متابعة التحقيقات إلى نهايتها. وغالباً ما يقف المسار عند توقيف صاحب صيدلية أو مستودع، دون التوصل إلى "الرؤوس الكبيرة" أو معرفة من سهّل دخول هذه المواد وكيفية توزيعها، وبذلك تبقى "المافيا المجهولة" قوية وقادرة على التحكم بالسوق.
تتحول تجارة الأدوية المهرّبة والمزوّرة في لبنان من مشكلة صحية إلى قضية أمن قومي تمسّ حياة الآلاف من المرضى. بين تصريحات رسمية عن إصلاحات ورقمنة، وتحذيرات نقابية من عواقب هذه الخطوات، وواقع معيشي يدفع المواطن اليائس نحو السوق السوداء، يبقى المريض هو الحلقة الأضعف والأكثر تضرراً.
والحلّ الجذري يتطلب إرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد في هذا القطاع، وتعزيز التعاون بين جميع الأجهزة الأمنية والقضائية، وتمكين المؤسسات الرقابية مثل الهيئة اللبنانية للدواء والمختبر المركزي، وتوعية المواطن ليصبح شريكًا فاعلًا في حماية صحته عبر الأدوات المتاحة مثل تطبيق MediTrack ففي المعركة ضد تجارة الموت الصامتة، لا خيار بين النجاح والفشل، لأن الثمن هو أرواح بشرية.