لبنان وحبّ الحياة: بلاد تُدار بالوهم

لبنان وحبّ الحياة: بلاد تُدار بالوهم

يعيش السكّان في لبنان داخل اقتصاد قائم على الاستعراض اليومي. ليس استعراض العلامات التجارية والمال والعلاقات والمزايدة على بعضهم البعض وعلى الآخرين. بل الاستعراض الذي يتحدّث عنه الكاتب والمفكّر الفرنسي الراحل غي ديبور في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه، «مجتمع الاستعراض»، الذي يتضمّن نظرة نقدية للمجتمع الرأسمالي الحديث بعدما حَوَّل الانسان إلى مغترب عن واقعه، واستعمرت السلعة الحياة الاجتماعية بأكملها، فأصبح الإنسان مُتفرّجا سلبيًّا على حياة صُمّمت له مسبقًا. في لبنان، يبدو هذا التفسير أكثر وضوحًا من أي مكان آخر. مجتمع يعيش في صورة خيالية مليئة بالمطاعم والمقاهي الجديدة التي تنبت كالفطر، مُتباهٍ بـ«حبّ الحياة»، فيما الأزمة تتعمّق يومًا بعد آخر.

خلال عطلة نهاية الأسبوع، فُتحت أبواب مغارة جعيتا ليس أمام السيّاح، ولكن لتنظيم حفلة عرس. آلات موسيقية، مكبرات للصوت، أدوات الإضاءة، تكدّس الحاضرين في مكان ضيّق، تصوير بالهواتف والكاميرات… أي كلّ ما يضر بتكوين المغارة ويُمنع منعًا باتًا استخدامه. بلدية جعيتا، التي تدير المغارة مؤقتًا بعد توقيعها عقدًا بالتراضي مع وزارة السياحة بإدارة لورا الخازن لحود، لم تعتذر وتتراجع عن الخطأ، بل أصّرت على أنّ المنظمين احترموا الشروط واستخدموا المغارة لـ30 دقيقة فقط، وأنّ المبالغ الناتج عن الاحتفال ستذهب لتنظيف المغارة والاهتمام بها! في حين أنّ وزارة السياحة، لم تصدر بيانًا إلا بعد إثارة الموضوع على مواقع التواصل الاجتماعي، وما نتج عنه من بلبلة، فتنصّلت من الاحتفال وأشارت إلى نيتها توجيه إنذار إلى بلدية جعيتا، التي «أبلغتها شفهيًا» بتنظيم حفلة العرس من دون أن تُقدّم طلبًا خطيًا.  

ليس بعيدًا من احتفال جعيتا، تحديدًا في 23 تشرين الأول الماضي، وافق مجلس الوزراء على تجديد عقد إشغال نادي الغولف اللبناني لسبع سنوات إضافية، مقابل حوالي 100 ألف دولار سنويًّا فقط. علمًا أنّ نادي الغولف يسيطر على أكثر من 400 ألف متر مربع ويُحقّق لقاء استثمارات المطاعم والمسابح والملاعب والحفلات والأنشطة مئات آلاف الدولارات سنويا. ولكنّ الحكومة برئاسة نواف سلام، قرّرت أنّ عقد نادي الغولف، الذي يرأسه كريم سليم سلام، يساوي عقد تأجير مطعم عادي في العاصمة. تمامًا كما تُصدر وزارة الطاقة الموافقات لإشغال الأملاك النهرية بمبالغ لا تتعدّى الألفي دولار بالعام، مقابل تحقيق أصحاب المصالح أرباحًا بمئات آلاف الدولارات. فضلًا عن تعدّيهم على الأملاك العامة، وإلحاق الضرر بهويتها وطبيعتها.

ما بين هذين الحدثين، كان لافتًا قرار وزير الطاقة والمياه، جو صدّي الطلب من شركة «تي جي أس» النروجية - الأميركية المكلفة إجراء مسح ثلاثي الأبعاد في البلوك رقم 8 أن تُغادر المياه اللبنانية، رغم نيلها الموافقات اللازمة. قرار صدّي حرم الدولة اللبنانية الحصول على بيانات مهمة حول الثروة النفطية البحرية من دون دفع أي كلفة، على العكس من ذلك، كان يُمكن للدولة أن تجني أموالًا لقاء بيع الداتا لاحقًا لشركات استكشاف النفط.

قبل جعيتا والغولف والبلوك رقم 8، كان مجلس الوزراء قد قرّر الترخيص لشركة «ستارلينك» لتزويد لبنان بخدمة الانترنت عبر الأقمار الاصطناعية، بعدما  أبرم وزير الاتصالات شارل الحاج عقدًا بالتراضي مع «ستارلينك»، على أن تتولّى الشركة التي أسّسها (ويدّعي أنّه باع حصصه فيها بعد تعيينه وزيرًا) توزيع خدمات «ستارلينك» في لبنان. العقد يحرم الدولة من إيرادات مُهمة، ويسمح للشركة الأميركية بتخزين البيانات خارج لبنان الذي سيفقد السيطرة الأمنية والسيادة على معلومات اللبنانيين. مكننة الإدارة العامة الذي أوصى رئيس الجمهورية، العماد جوزف عون تلزيمه إلى شركة إماراتية، يندرج في الإطار نفسه. 

كلّها قرارات وممارسات تصدر عن سلطة تُنادي ليلًا ونهارًا بمكافحة الفساد والشفافية واعتماد المعايير في التعيينات وإرساء دولة القانون. سلطة تختار الملفات التي تريد تحويلها إلى قضايا فساد، حتى ولو لم تكن مبنية على أسس قانونية، وتغلب عليها الإساءة وتشويه السمعة، لتصنع قناعة زائفة بأنّ لبنان يدخل «مرحلة جديدة». يندرج ذلك في ما يسمّيه اقتصاديون كديفيد هارفي استخدام الأنظمة الريعية للوهم كآلية حكم، وهو امتداد لفكرة «الربح الوهمي» لدى الاقتصادي الأميركي جون كينيث جالبرايث: أي خلق إحساس جماعي بالثراء والتقدّم في غياب أي أساس حقيقي لذلك.

هكذا، داخل المجتمع الاستعراضي اللبناني، يتحوّل الاستهلاك إلى طقس للبقاء، والمظاهر إلى وسيلة للنجاة الفردية. يعتقد المستهلك أنّه إذا اشترى كرواسان بخمسة دولارات يشتري معها وهم الاستقرار، ويقنع نفسه بأنّه، رغم الانهيار العام، لاي زال خارج الخطر، بغض النظر عن أنّ أكثر من نصف المجتمع يُصنّف تحت خط الفقر. وكذلك المطاعم والحانات والمقاهي التي تتكاثر بلا منطق إنتاجي. ليبدو الأمر «طبيعيًا» في بلد غابت عنه الصناعة وهُمّشت الزراعة وتلاشى أي تخطيط اقتصادي. فجرى استبدال فكرة «الإنتاج» بثلاث ركائز هشة: تحويلات المغتربين، والاقتصاد الريعي القائم على الخدمات والمصارف والسياحة، والاستهلاك المموّل بالاستيراد. تُفتَح المطاعم والمقاهي لا لأنّ السوق يحتاجها، بل لأنّ لا مجال آخر للاستثمار. فالإنتاج الزراعي والصناعي يتطلّب بنية تحتية مفقودة، من كهرباء، تمويل، استقرار، نقل. فيما يمكن لمطعم أن يبدأ برأسمال صغير نسبيًا ويؤمّن مردودًا سريعًا نقدًا. تتغذّى السلطة على هذا النمط من الاقتصاد كما تتغذّى على حملات السياحة والإعلانات التي تروّج لنظرية «الصمود اللبناني»: واجهات براقة تُخفي هشاشة الداخل وصور مزدحمة تُسوّق لوهم الاستقرار. 

لكن هذا «النمو» في الحقيقة ليس سوى تضخّم في الأسعار والاستهلاك بلا إنتاج. معظم المطاعم والمقاهي تستهلك ما يُستورد، وتُنتج وظائف متدنية الأجر بلا ضمانات ولا حماية، وتُكدّس الأرباح في أيدي قلّة من المالكين والمستوردين وأصحاب العقارات. الدولارات الناتجة عن هذه الأنشطة - على أهميتها وضرورتها خاصة في الوضع الحالي - لا تُعيد تحريك الاقتصاد المحلي بل تخلق ركودًا لا متوازنًا: حركة نقدية محصورة بقطاعات محدودة وانكماش في القطاعات المنتجة. يسمّي وزير المالية اليوناني السابق، والاقتصادي يانيس فاروفاكيس هذا النمط بـ«الاستقرار من خلال الوهم». فحين تعجز السلطة عن حلّ الأزمة فعليًا، تلجأ إلى مظاهر الحياة العادية، كالمطاعم المزدحمة، المهرجانات، المناسبات الثقافية والدينية، لزرع فكرة أنّ «الأسوأ مضى». فينصرف المواطن إلى الاستهلاك بدل المساءلة، وينشغل بإشارات عودة الحياة بدل التفكير في الإصلاح النقدي، أو العدالة الضريبية، أو المحاسبة عن الانهيار، السؤال عن الديون الجديدة التي ستُحمّل للمجتمع والأجيال المستقبلية، السيادة التي تُباع، والبلد الذي يُخصخص بأكمله. 

لا يُدار لبنان بسياسات، بل بصور. تتبدّل الحكومات، وتتكرّر الأزمات، ويبقى الثابت واحدًا: إنتاج وهم الحياة الطبيعية.

 

اقرأ المزيد من كتابات ليا القزي