أي صندوق نقد يحتاجه لبنان؟

أي صندوق نقد يحتاجه لبنان؟

جابر والممثل المقيم لصندوق النقد

بعد ستّ سنوات من لحظة الانهيار المالي والاقتصادي، لا يزال النقاش في لبنان عالقًا عند النقاط نفسها تقريبًا، ومن دون أي اتفاق حولها. واحدة من أكثر هذه النقاط حساسية هي مسألة التفاهم مع صندوق النقد الدولي: هل يجب أن نوقّع الاتفاق أم لا؟

عادةً ما يُبنى الموقف من الصندوق على خلفيات فكرية واضحة. فهناك من يبحث عن حلول مستدامة تُعلي مصلحة المجتمع والدولة، وهناك من يؤمن بوصفات المؤسسات المالية الدولية التي تهدف إلى تقليص دور الحكومات المركزية، تحت شعار «الاستقرار المالي والنقدي»، ولو على حساب الطبقات الأوسع من المجتمع.

أما في لبنان، فالخلاف مختلف. هو خلاف داخل التيار النيوليبرالي نفسه. بين من يرى في الصندوق وسيلة لفرض مزيد من الضرائب وتقليص الإنفاق العام والرواتب والتقديمات الاجتماعية، وبين من يدرك أن النموذج اللبناني القديم لم يعد صالحًا للاستمرار، ويريد الحفاظ على الطبقة المالية نفسها، ولكن ضمن إطار «أكثر عقلانية» وتنظيمًا.

منذ تعيين ياسين جابر وزيرًا للمالية، بعد سنوات طويلة في لجنة المال والموازنة النيابية، أصبح من أبرز الداعين إلى اتفاق مع صندوق النقد كخيار وحيد أمام الدولة اللبنانية للخروج من حالة الانهيار المستمرة منذ عام 2019. في مقابلته الأخيرة ضمن برنامج «عشرين 30» مع الاقتصادي والخبير في السياسات العامة، ألبير كوستانيان، قال جابر بوضوح: «لبنان أمام خيارين: إما الذهاب وحده وهو بمثابة انتحار، أو اتفاق مع الصندوق».

لكن هل فعلًا عدم الاتفاق مع صندوق النقد يُعتبر انتحارًا؟

قد يرى البعض في هذا الوصف نوعًا من المبالغة، لكنّ جابر يقصد به القول إنّ عدم الاتفاق مع الصندوق سيؤدي إلى فقدان الثقة الدولية بلبنان، وبالتالي إلى غياب الاستثمارات الخارجية. فبالنسبة لمؤيدي الصندوق، الأهمية لا تكمن في حجم القرض (الذي لن يتجاوز ثلاثة مليارات دولار، وهو مبلغ تملكه أصلًا وزارة المالية في حساباتها لدى مصرف لبنان ويُمكن أن تجني أضعاف أضعاف بمُجرّد فرض سياسات اجتماعية عادلة)، بل في أن التعاون مع الصندوق يمنح لبنان «ختم حسن السلوك» أمام المجتمع المالي الدولي.

لكن ما يغيب عن بال جابر وأصحاب هذا الرأي هو أن الأزمة اللبنانية ليست أزمة شحّ في الدولار ولا غياب استثمارات. قبل تشرين الأول عام 2019، كانت التدفقات المالية في أوجّها، ومن دون أن توقف المسار الانهياري.

بين عامي 1993 و2018، دخل إلى لبنان ما قيمته 281 مليار دولار. وللمقارنة، فإن «خطة مارشال» التي أعادت إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لم تتجاوز قيمتها، بأسعار اليوم، 170 مليار دولار. كل هذا المال لم يمنع الانهيار اللبناني، بل غذّاه، لأنه صُبّ في نموذج اقتصادي ريعي غير منتج. المشكلة لم تكن يومًا في غياب الثقة ولا في الأموال، بل في البنية نفسها: اقتصاد قائم على الاستدانة، والهندسات المالية، واستنزاف الموارد العامة لصالح القلة. من هنا، يصبح النقاش حول الصندوق نقاشًا حول الوجهة وليس فقط حول القرض.

فصندوق النقد ليس الحلّ السحري، بل جزء من المنظومة النيوليبرالية التي عمّقت أزمات شبيهة في دول أخرى.

الشروط التي يفرضها، من بيع الممتلكات العامة، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وتحرير سعر الصرف، ورفع الضرائب على المحروقات والخدمات الأساسية، تُضعف الدولة أكثر، وتحمّل الكلفة الأكبر للفئات الأفقر. وفي بلد مثل لبنان، يصبح التقشّف وصفة لمعاقبة المواطنين بدل محاسبة المنظومة.

لكن في المقابل، يمكن الاعتراف بأن للصندوق دورًا إيجابيًا واحدًا محتملًا: فرض المحاسبة والشفافية على النظام المالي. فمنذ بداية الأزمة، قاوم مصرف لبنان والمصارف التجارية الاعتراف بالخسائر التي سبّبتها سياساتهما، ويستمرّ البنك المركزي حتى اليوم في اعتماد سياسة الحاكم السابق رياض سلامة القائمة على حيل محاسبية وتخفيضات وهمية، لتحميل الدولة والمودعين عبء الانهيار. وهنا تحديدًا يكمن الخلاف بين الصندوق والمنظومة الحاكمة.  فالصندوق يصرّ على كشف حسابات مصرف لبنان، تحميله جزءًا من المسؤولية، وإعادة رسملة المصارف القادرة على البقاء من دون تحميل الخزينة ديونًا لا قدرة لها على تسديدها. هذه المقاربة، رغم قسوتها الاجتماعية، أكثر عقلانية من مقاربة السلطة الحالية التي ترفض الاعتراف بالحقائق وتستمر في دفن الخسائر.

من هنا، يُمكن القول إنّ كلام ياسين جابر يعكس اعترافًا بغياب سلطة تمتلك الإرادة السياسية لتطبيق الإصلاحات بنفسها. وتأتي خطة الصندوق في ما خصّ إصلاح القطاع المصرفي خيارًا «أفضل السيّئين» بين ما هو مطروح، لكنها تبقى مؤلمة اجتماعيًا، خصوصًا إذا لم تُصغ شروط التفاوض بعين محلية اجتماعية مسؤولة.

إنّ الجدل حول اتفاق لبنان مع صندوق النقد هو في جوهره نقاش حول مستقبل التعاون الدولي نفسه. فالعالم يشهد اليوم مراجعة جذرية لدور المؤسسات المالية العالمية، تحديدًا بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة.

في الجنوب العالمي، كما في الدول المتقدمة، هناك إدراك متزايد بأن الصندوق والبنك الدولي بحاجة إلى إعادة تعريف لدورهما: من مؤسستين تفرضان التقشف، إلى شريكين في العدالة الاقتصادية والتنمية المستدامة. هذه اللحظة العالمية تمنح لبنان فرصة حقيقية. فإذا كان العالم يتغيّر، يجب أن يتغيّر موقفنا أيضًا، مع إدراك حجم البلد في الصراع العالمي، والنظرة إليه بعد حرب إسرائيلية مُدمّرة وضغوط قصوى لتطويعه. 

رغم ذلك، يُمكن للبنان أن يتعامل مع الصندوق كشريك قادر على إعادة تعريف معنى الإصلاح في سياقات هشّة مثل السياق اللبناني، وذلك عبر:

الأول، استخدام إطار صندوق النقد لاستعادة الاستقرار والمصداقية على مستوى الاقتصاد الكلي، ولكن بشروط تراعي البعد الاجتماعي.

الثاني، وضع آليات محلية تحدّ من التبعية لاحقًا: من حماية اجتماعية شاملة، إلى سياسة مالية شفافة، إلى استراتيجية طاقية وصناعية طويلة الأجل تولّد قيمة فعلية بدل الريع.

بهذا المعنى، يُصبح الاتفاق مع صندوق النقد جسرًا مؤقتًا نحو إعادة التأسيس، وبناء نموذج اقتصادي جديد أكثر عدلاً واستقلالاً. ولكن هل السلطة الحالية مؤمنة بذلك وقادرة على فرض هذه البدائل؟

 

اقرأ المزيد من كتابات ليا القزي