استكمال التعيينات الأميركية في لبنان: التدقيق في حقبة رياض سلامة

الخبر يقول إنّ حاكم مصرف لبنان، كريم سعيد أجرى تغييرات (من ضمن صلاحياته) إدارية داخل «المركزي». فاستُبدلت رلى باسيل التي كانت تُدير وحدة التفتيش والتدقيق، بزميلها خالد بحصلي الذي كان يُدير وحدة العلاقات الخارجية.
وفق تعريف المهام الذي يعرضه مصرف لبنان على موقعه الالكتروني، تختصّ وحدة العلاقات الخارجية بـ«مدّ جسور التواصل بين مصرف لبنان والجهات المعنية المحلية والدولية، مع ضمان توافقها مع أفضل الممارسات العالمية». وضمن ذلك يأتي العمل لـ«توضيح سياسات مصرف لبنان ومبادراته وإنجازاته، نشر المعلومات المُهمة، إجراء أبحاث حول علاقات مصرف لبنان مع الشركاء المحليين والدوليين، اقتراح استراتيجيات لتعزيز التعاون وضمان الالتزام بالمعايير الدولية، فتح وتنفيذ الاعتمادات المستندية مثل أدوات تمويل التجارة، والتنسيق مع إدارة الصرف الأجنبي لضمان سلاسة المعاملات الدولية». أي أنّ مدير هذه الوحدة يمتاز بعلاقات جيّدة مع رؤساء البعثات الأجنبية والدبلوماسيين في السفارات. هو، كما يُعرّف عنه التوصيف الوظيفي، الناطق باسم مصرف لبنان لدى الخارج، وصلة وصل الخارج مع مصرف لبنان.
أما وحدة التفتيش والتدقيق فتضمن «النزاهة المالية والتشغيلية الداخلية لمصرف لبنان»، عبر «عمليات التدقيق والتفتيش الشاملة، إجراء تقييمات مستقلة للسجلات والعمليات والأصول والحسابات، اقتراحات لتعزيز الحوكمة والضوابط الداخلية والكفاءة التشغيلية، مراقبة المعاملات المالية، وإعداد التقارير للوقاية من الاحتيال والأخطاء وسوء الإدارة». وتنقسم هذه الوحدة إلى ثلاثة أقسام: الرقابة العامة، التدقيق والرقابة المالية». هي باختصار كاميرا مراقبة مصرف لبنان على مصرف لبنان.
الخبر بالشكل عادي. إعادة ترتيب داخلية غير مُستغربة داخل الشركات والمؤسسات. ولكن المعطيات تؤكّد أنّ ما جرى ليس مُجرّد تغييرات. خاصّة أنّ بحصلي قد بدأ فعلاً الاجتماع مع مسؤولين ومعنيين بمؤسسات مصرف لبنان، لجمع المعلومات حول مرحلة رياض سلامة والمدراء التنفيذيين الذين عاونوه بمهمته، خاصة الأفراد الــ 13 من موظفي «المركزي» الذين ورد ذكرهم في التحقيق الذي تُجريه النيابة العامة الفرنسية ضدّ سلامة. المعطيات تُشير أيضاً إلى أنّ هذه التغييرات أتت بطلب وتنسيق مع المسؤولين الأميركيين عن الملف المالي في لبنان. الهدف معرفة ما كان يجري بشكل مُفصّل داخل مصرف لبنان خلال ولاية سلامة. من دون أن يُعرف بعد ما إذا كان الهدف التحضير لفتح المزيد من الملفات قضائياً، أو أنّ التحقيق سيقتصر على جمع معلومات وتنظيف الملفات مع طيّ الصفحة من دون محاسبة، خاصة أنّ أغلب أعضاء الفريق الرئيسي لا يزال في مواقعه، باستثناء الخروج الأبرز للمدير التنفيذي السابق لدائرة القطع والعمليات الخارجية، نعمان ندّور الذي كان قد أُحيل إلى التقاعد ولكن نظّم له سلامة عقداً استشارياً ليبقى داخل «المركزي». ندّور طلب إنهاء عقده في الأيام الأخيرة، وقد أتى قراره بعد التعيينات الأخيرة في هيئة التحقيق الخاصة، وتعيين زوجة وزير الداخلية، دانيا عويدات عضواً فيها (علماً أنها لم تلتحق بمنصبها بعد)، وقد طُرح اسمه سابقاً ليُعيّن في لجنة الرقابة على المصارف.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أدركت الولايات المتحدة الأميركية أنّ السيطرة على التدفقات المالية وفرض سطوة الدولار عالمياً، لا تقلّ أهمية عن القوّة العسكرية في إدارة النفوذ الدولي. بل هما خطّان متلازمان لتراكم رأس المال ولتوسيع سلطة «المركز» على دول الجنوب العالمي. حالياً، امتدت هذه السلطة لتشمل أيضاً دول الشمال، التي كانت تعتبر نفسها شريكة واشنطن في لعب دور المركز. لبنان، بما يُمثّله، وبغضّ النظر عن النقاش المُستمر بين من يعتبر أنّ البلد لا يُشكّل أهمية لعواصم الدول الكُبرى وبين من يراه محورياً في رسم سياسة الشرق الأوسط، ليس بعيداً عن «إمبراطورية الدولار» وقراراتها. هو حاضر على الطاولة، وليس خلال السنة الأخيرة، بل منذ 15 تموز عام 1958، يوم وصلت 70 سفينة حربية على البحر الأبيض المتوسط، مدعومة بثلاث حاملات طائرات، و1700 جندي من مشاة البحرية الأميركية بكامل أسلحتهم على شواطئ بيروت، فكانت تلك أول عملية قتالية مباشرة للولايات المتحدة بالشرق الأوسط. واستمرت بعد الحرب الأهلية واتفاق الطائف وتعيين سلامة، وكلّ الإجراءات التي رافقت وجوده في الحاكمية وقُدّمت على أنّها «امتيازات» للبنان، كالمقاصة المحلية بالدولار. حينها سمحت واشنطن بإتمام المقاصة، أي عملية تبادل الشيكات بالدولار بين المصارف، والتي يُفترض أن تتم بالولايات المتحدة لأنّها الدولة التي تطبع الدولار، من دون أن تمر العملية بنيويورك أو عبر مصارف المراسلة، على أن تكون الرقابة لاحقة. هذا التسهيل كان عملياً من ضمن فخّ دولرة الاقتصاد المحلي وجعله أكثر التصاقاً بالولايات المتحدة، التي امتلكت قوّة تدميره ساعة تشاء. في السياق نفسه، يُمكن الحديث عن إصدار مصرف لبنان لسندات دين بالعملات الأجنبية، وجعل الديون مصدر تمويل الدولة الوحيد، مترافقاً مع سياسة انكماشية تمنع أي استثمار في البنى التحتية، مقابل الاستمرار في دفع أصل الدين والفوائد عليه.
ما استجّد في الفترة الأخيرة، أنّ هذه السيطرة، وتحديداً الرقابة على مؤسسات لبنان المالية والتحويلات النقدية والجهات الرقابية، قد اشتدّت واتّخذت منحى أكثر وضوحاً. أصبح من الصعب أن يتم تعيين أحد بالاستناد إلى الكفاءة المهنية فقط. مالياً، يوجد مُهمة أساسية وهي - كما بات معلوماً - ضبط مصادر أموال حزب الله وإقفال مؤسساته التي تُقدّم خدمات اجتماعية للناس. وتحت هذا العنوان الرئيسي، تتفرّع عناوين تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي لضبط التداول بالنقد، إعادة الثقة بالمصارف الحالية، تنظيف حسابات مصرف لبنان وتقليل الخسائر في ميزانيته، إجراء تغييرات في الهيئات الرقابية، وغيرها من الأمور… حتى ولو جرى تظهير بعد الملفات وكأنّها تندرج ضمن «مكافحة فساد».
مصرف لبنان هو أداة استراتيجية للتحكّم في مسارات السياسة والاقتصاد. برز هذا التوجّه منذ بدء معركة تعيين بديل لسلامة وكيف شُغل على الموضوع داخل مجلس الوزراء. ولكنّه تأكّد مع كلام الموفدة الأميركية، مورغان أورتاغوس خلال عشاء خاص نظّمه على شرفها صانع السياسات المحلية، المصرفي أنطون الصحناوي، عن أنّ «أهم عمل نقوم به في الولايات المتحدة هو وقف الإرهاب في جميع أنحاء العالم. وكريم (سعيد) هو رأس الحرب بذلك». فصفّق لها وله الحضور.
بين تعيين كريم سعيد وتكليف خالد بحصلي إدارة وحدة التفتيش والتدقيق، تعيينات عديدة مرّت في سياق الهدف ذاته. مثال على ذلك، مستشار رئيس الجمهوريّة، المصرفي فاروج نركيزيان الذي يشغل منصباً في مجلس إدارة شركة «غروث غايت إيكويتي بارتنرز» التي أسّسها وكان يديرها كريم سعيد. تعيين المستشارة الاقتصادية لدى السفارة الأميركية، تانيا كلاب عضواً في لجنة الرقابة على المصارف. توقيع مصرف لبنان لعقد استشاري مع فادي حافظ، بعد انتهاء مدّة عقده مع السفارة الأميركية. تعيين النائب السابق لحاكم مصرف لبنان، محمد بعاصيري مستشاراً لكريم سعيد لشؤون التدقيق، وتكليفه إعداد مشروع تعاقد مع شركة «كرول» للتدقيق التي كلّفها سابقاً إجراء تدقيق في «بنك الجمّال» بعد أن عيّنه رياض سلامة مديراً مؤقتاً عليه وفوّضه الإشراف على تصفيته.
لا يمكن لأحد إنكار أن لبنان بحاجة إلى إعادة تشكيل نظام اقتصادي شامل يعيد الاعتبار لمجتمعه ومؤسساته المالية. ولبنان بحاجة إلى إعادة فتح قنواته المالية مع الخارج لاستقطاب التحويلات والاستثمارات بطريقة صحيحة وليس بإغراءات المكتسبات السريعة كما كان معمولاً. أساساً، مسؤولية الحُكم الجديد، وحاكم مصرف لبنان، يتجاوز إدارة السيولة أو ضبط سعر الصرف. المطلوب قيادة عملية إعادة بناء الثقة داخلياً وخارجياً وبناء نظام يخدم المُجتمع، من دون إعلان القطيعة أو التحدّي مع الخارج، بل التوفيق بين كلّ من يُقدّم مصلحة فعلية للبنان. لكن هذا الدور لن يكون فعّالاً والإصلاح لن يكون مجدياً إذا فُرض من الخارج أو صُمم حصراً لتحقيق أهداف إقليمية. فالسيادة على القرار النقدي شرط أساسي لأي خروج حقيقي من الأزمة.