أوروبا تسطو على أموال سلامة المهربة: أين وزارة العدل والقضاء؟

حصل لبنان قبل شهر على قرضٍ من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار، قال وزير المالية ياسين جابر إنّ المبلغ يُعدّ «تأسيسياً لإنشاء صندوق لإعادة إعمار البنى التحتية في المناطق المتضررة». بغض النظر عن المعلومات التي تؤكّد عدم صرف أي أموال لها علاقة بإعادة الإعمار، لأنّ إسرائيل تمنع ذلك، ولكن القرض يعني دفع فوائد، ويعني تحميل ميزانية الدولة ديوناً جديدة، في وقت يوجد بديل أسهل بكثير، لا يزيد أعباءً على الدولة، ولا تأتي معه شروطٌ وقيود على كيفية صرف الأموال، والأهمّ أنّ قيمته أكبر.
500 مليون دولار هي بالحدّ الأدنى المبالغ التي يحقّ للدولة اللبنانية المطالبة باستعادتها من سويسرا وألمانيا ولوكسمبورغ وفرنسا وبلجيكا وانكلترا والولايات المتحدة الأميركية، والمتأتية من عمليات حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، تحديداً العقد مع شركة «فوري» الموقع بين سلامة بصفته حاكماً لـ«المركزي»، وشقيقه رجا (نيابةً عن «فوري») الذي أدّى إلى تحويل مصرف لبنان بين عامَي 2002 و2015 مبالغ بقيمة 333 مليون دولار عبر مصرف HSBC، بناءً على الاتفاق الموقّع بين سلامة وسلامة في 6 نيسان عامة 2002. إضافةً إلى الحسابات المصرفية لدى البنوك في الخارج، التحويلات المالية، الأصول في أوروبا وإنكلترا ونيويورك، الاشتباه بتبييض واختلاس الأموال. وستُضاف إلى أصل المبلغ تعويضاتٌ، عادة ما تُحدّد بمرتين المبلغ الأساسي. وفي حال كان الدفاع عن الحقوق اللبنانية قوياً، يُمكن تحصيل مبالغ أكثر مع إثبات أنّ الضرر المعنوي على لبنان جرّاء عمليات سلامة وانعدام الثقة بالمصارف اللبنانية في الخارج، قد أدّى إلى خسائر بمليارات الدولارات.
المستغرب أنّ لبنان ومنذ العام 2021 يُهمل هذا الملفّ، ولم يتّخذ إجراءات تحمي حقوقه، باستثناء ادّعاء يتيم للرئيسة السابقة لهيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلين إسكندر (نيابةً عن الدولة اللبنانية) على مصرف «HSBC» في سويسرا، وطلبها دخول الدولة اللبنانية طرفاً مباشراً في الدعوى. خلال فترة تولّي وسيم منصوري لمهام حاكمية مصرف لبنان بالإنابة، قام عبر مكتب محاماة تربطه علاقة مهنية به، بتقديم ادّعاء خلف الادّعاء الرسمي. خلق ذلك منافسة بين الدولة ومصرفها حول من يحقّ له المطالبة بالحقوق. وبالتأكيد أنّ الموضوع سينتهي بنزاع حول من يحق له الحصول على المبالغ.
ادّعاء هيلين إسكندر أُرسل إلى سويسرا بالبريد السريع والبريد الالكتروني، ولكنّ وزير العدل الحالي، عادل نصّار قال أمام الفريق الذي يُتابع الموضوع إنّه لا علم له بوجود ادّعاء من لبنان. علماً أنّه عند تسجيل الدعوى في سويسرا، اتُخذ مقر إقامة السفارة اللبنانية كعنوان للسكن، بناءً على نصيحة الادعاء السويسري. نصّار لا يعرف بوجود الادّعاء اللبناني، وعاد خطوةً إلى الوراء، طالباً من أحد القضاة تقريراً يُثبت له أين يكمن تضرّر الدولة من عمليات رياض سلامة.
الرأي الذي وُجّه إلى نصّار استند إلى المادة 97 من قانون النقد والتسليف التي نصّت على أنّ «مصرف لبنان هو الوكيل المالي للحكومة. وهو يتولى مجانًا إدارة حسابات الخزينة، والاكتتاب بخدمة وتسديد القروض التي تصدرها الدولة أو تضمنها، وجميع العمليات المالية العائدة للقطاع العام». ما يعني أنّ جميع العمليات التي يُجريها المصرف المركزي، والعائدات المالية الناتجة عنها، «تعود ملكيتها الحصرية إلى الدولة». بناءً على هذا الاستنتاج، يُمكن القول إنّ العمولات التي استوفتها «فوري»، اقتُطعت من عمليات مالية أُنجزت لحساب الخزينة العامة، والمبالغ التي حصلت عليها «فوري» بطريقة غير مشروعة، تمّت على حساب الإيرادات المباشرة للدولة. بالتالي، إنّ الضرر اللاحق هو مباشر وشخصي على الدولة اللبنانية، التي كانت ستحتفظ أو تستوفي المبالغ.
إذاً الرأي القانوني واضح بحقّ الدولة في المطالبة باسترداد الأموال الناتجة عن هذه العمليات. والملاحقة لا تتوقّف على رياض ورجا سلامة، بصفتهما قائدَي الجرائم التي نُفّذت، بل يجب أن تشمل الشبكة التي شاركت في إدارة العمليات والتستّر عليها: المصرف المركزي الفرنسي، المصارف الأجنبية المتواطئة وعلى رأسها مصرف HSBC، والأفراد الذين شاركوا في الجُرم وكانوا واجهة لسلامة في العقارات والشركات المُستخدمة. وكانت منظمة «بابليك آي - Public Eye» السويسرية (تُحقّق في الانتهاكات التي ترتكبها الشركات السويسرية في الخارج) قد نشرت تحقيقاً عن عمليات تبييض الأموال وهويات الأشخاص الذي سهّلوا عمليات رياض ورجا سلامة داخل مصرف HSBC في سويسرا بين عامَي 2002 و2015. وقد تبيّن أنّ المصرف تجاهل وجود أكثر من 300 معاملة تخطّت قيمتها 330 مليون دولار نُفّذت على فترة امتدت لحوالي 13 عاماً بين مصرف لبنان وHSBC وحسابات شركة «فوري».
من المفترض أن تنتهي في نهاية العام التحقيقات بملفات رياض سلامة في أوروبا. في هذه المرحلة، من المهم أن تتحرّك الدولة ممثلّة برئيس هيئة القضايا في وزارة العدل، القاضي جون قزي ووزير العدل عادل نصّار اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع ضياع حقوق الدولة اللبنانية. فالمخاطر المُحيطة بالملف عديدة:
أولاً، هناك تخوّف أن يتوصّل رياض سلامة إلى تسوية مع النيابة العامة المالية الفرنسية، تقضي بالاعتراف بالتُهم والتخلّي عن نسبة من ثروته لقاء إسقاط التُهم. وقد يكون لمصرف لبنان حالياً مصلحة في الموافقة على هكذا اتفاق، إذا ما أتى من ضمن صفقة سياسية على قاعدة «عفا الله عمّا مضى» وإقفال هذا الملفّ نهائيًا. خاصة بعد أن ظهرت في أكثر من مناسبة العلاقة غير المتساوية بين الحاكم الحالي، كريم سعيد، ورئيس مصرف «سوسييتيه جنرال»، أنطون الصحناوي، الذي كان يحظى بمعاملة مصرفية استثنائية من رياض سلامة. سيؤدي ذلك إلى عدم حصول الدولة اللبنانية على أي تعويضات.
ثانياً، عام 2022، طلب النائب العام التمييزي السابق، غسّان عويدات تجميد أصول مملوكة لسلامة وشركائه في بنوك سويسرا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا ولوكسمبورغ. ولكن في فرنسا سارع القضاء إلى تسجيل طلب الحجز الذي تقدّم به هو قبل الطلب اللبناني، وبالتالي في حال صدور الحُكم ستؤول الأموال لصالح فرنسا. لماذا حصل ذلك؟ لأنّ القضاء الفرنسي أبلغ في حينه عويدات بشكل واضح أنّ «الأموال لن تُردّ إلى لبنان». ومن غير الواضح لماذا لم يُصرّ لبنان على الدفاع عن حقوقه. لذلك، يجب على القاضي قزي ووزير العدل العمل لتثبيت الحجز اللبناني في فرنسا، وطلب الحجز على الممتلكات والأموال في كلّ من انكلترا ونيويورك.
ثالثاً، يُجيز القانون الفرنسي للجمعيات التي تتُابع قضايا حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وتُقدّم الادعاءات، أن تحصل على جزء من التعويضات الناتجة عن العمليات التي كُشفت. ولكن، في حال لم تكن الدولة اللبنانية حاضرة، ممكن أن تُطالب هذه الجمعيات بالحصول على جزء من أصل المبلغ أيضاً.
بعد حوالي سنة من السجن من دون إجراء تحقيق جدّي في الجرائم المتهم رياض سلامة بارتكابها، ها هو يتحضّر للخروج من السجن وكأنّ شيئاً لم يكن. حتى ملفّ «فوري»، الذي ثبت الاتهام على سلامة فيها، وجرى تبيان كيفية اختراعها وإدارتها لسرقة المال العام وتبييض الأموال، تقاعس القضاء اللبناني عن استكمال تحقيقاته فيها، وكأنّ الدولة غير مُتضررة، أو أنّ الحقّ العام غير موجود. المعركة لم تنتهِ لاسترداد حقوق السكان في لبنان، ولكن المسؤولية أكبر على وزارة العدل والقضاء اللبناني لإثبات أنّ المرحلة الجديدة هي فعلاً مرحلة محاسبة وإصلاح.