المحافظ الرقمية في لبنان: تضييق لحماية المصارف

المحافظ الرقمية في لبنان: تضييق لحماية المصارف

تُهيمن المحافظ الرقمية على سوق التجارة الإلكترونية العالمية، حيث من المتوقع أن تستحوذ على أكثر من 50% من إجمالي قيمة المعاملات بنهاية عام 2025، متجاوزةً بذلك بطاقات الائتمان (22% Credit Cards) وبطاقات الخصم (Debit Cards 12%). وقد كشفت دراسة أجرتها شركة «جونيبر ريسيرش» (المتخصصة في استراتيجيات التكنولوجيا العالمية) أن عدد مستخدمي المحافظ الرقمية حول العالم سيزداد بنسبة 35% خلال السنوات الخمس المقبلة، مرتفعًا من 4.4 مليار مستخدم في عام 2025 إلى حوالي 6 مليارات مستخدم في عام 2030.

ترجمة هذه الأرقام تعني أنّ الناس حول العالم تُفضّل استخدام هاتفها لتحويل الأموال ودفع الفواتير وطلب البيانات المالية، على حساب التعامل مع المصارف التقليدية، التي باتت العلاقة معها مُعقّدة وتتطلّب الكثير من الإجراءات والتنقّلات والوقت. عدد مستخدمي المحافظ الإلكترونية يرتفع حول العالم بطريقة هزّت القطاع المصرفي التقليدي، ودفعته إلى تحديث خدماته عبر الدخول إلى العالم الرقمي ومنافسة هذه المحافظ، مستفيدًا من بنية تحتية عالمية تخدم مصالحه.

أمّا في لبنان، فقد اختار مصرف لبنان أن يبدأ رحلة «تصحيح المصارف» وإعادة الثقة بها من بوابة التضييق على المحافظ الإلكترونية، وصولًا إلى وقفها عن العمل. يعتقد أنّه بهذه الطريقة، يُجبر السكان والمودعين على العودة إلى التعامل مع القطاع المصرفي. لا يمكن فهم حملة «المركزي» على هذه المحافظ، التي تُشكّل بديلاً عمليًا للسكّان – سواء كانوا مودعين أم غير مودعين – سوى كخدمة للمصارف كي تستعيد «زبائنها» وتُعيد تكوين أرباحها.

المحافظ الإلكترونية هي جزء مما يُسمّى «بنوك الظلّ». ووفق تعريف «مجلس الاستقرار المالي – FSB» (هيئة دولية انبثقت عن مجموعة العشرين)، تُقسّم مصارف الظلّ إلى ثلاث فئات:

كلّ المؤسسات المالية التي ليست مصارف مركزية أو مصارف تجارية أو مؤسسات مالية عامة.

المؤسسات المالية الخارجية، صناديق الأسهم، صناديق التحوط، صناديق الاستثمار الأخرى، المؤسسات المالية الأسيرة، مقرضو الأموال، الأطراف المقابلة المركزية، الوسطاء الماليون، شركات التمويل، الشركات الاستئمانية، أدوات التمويل المهيكلة.

المؤسسات المالية التي تُصنّفها السلطات بأنها تقوم بأنشطة الوساطة الائتمانية التي قد تشكّل مخاطر على الاستقرار المالي.

شهدت مصارف الظلّ نموًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، إذ يُقدّر أن نصف الكتلة النقدية المتداولة عالميًا موجود لدى هذا القطاع. لذلك، أصدرت مؤسسات دولية، ومنها صندوق النقد الدولي، تحذيرات من أن توسّع بنوك الظلّ قد يؤدّي إلى أزمة عالمية شبيهة بأزمة 2008، بسبب عدم خضوعها للضوابط نفسها التي ترعى عمل المصارف التجارية. في المقابل، تُعدّ مصارف الظلّ طريقة السوق في البحث عن أدوات جديدة لخلق المال والأرباح، ضمن منطق الرأسمالية التوسّعي. فهي لا تُشكّل تحديًا للنظام العالمي بقدر ما تُكمّله بمنتجات حديثة وأطر بديلة.

أما ما يُقال عن عدم إمكانية ضبط حركة الأموال عبر المحافظ الإلكترونية، فليس دقيقًا. ففتح أي حساب يتطلّب هوية الشخص وتطبيق إجراءات «اعرف عميلك» (KYC)، كما أن التحويلات تُسجّل وتُحفظ ويمكن تتبّعها.

فلماذا الحملة عليها؟

في 26 أيار الماضي، أصدر المصرف المركزي تعميمًا وسيطًا حمل الرقم 735 عدّل بموجبه القرار الأساسي رقم 7548 المتعلق بالعمليات المالية والمصرفية بالوسائل الإلكترونية. حدّد التعميم مجموع حركة الأموال على المحفظة الإلكترونية بـ10 آلاف دولار شهريًا، وألا يتعدّى رصيدها 3 آلاف دولار للشخص الطبيعي، و30 ألفًا للشخص المعنوي، على أن يكون الرصيد غير قابل للتجديد خلال الشهر. كما منح المؤسسات مهلة أخيرة حتى 25 آب 2025 للالتزام بالخطة.

وفي 14 تشرين الثاني 2025، أصدر مصرف لبنان القرار الأساسي رقم 13769، محدِّثًا نموذج KYC الخاص بالعمليات النقدية لدى المؤسسات المالية غير المصرفية، بما يشمل شركات الصرافة والتحويل والمحافظ الرقمية. وبات على المؤسسات تعبئة نماذج RFI لكل عملية تتجاوز 1000 دولار، وإرسال البيانات مُشفّرة إلى المصرف خلال يومي عمل، وجمع معلومات موسّعة عن العملاء بحسب الملاحق المعتمدة. قرار مصرف لبنان أتى بعد زيارة وفد الخزانة الأميركية إلى بيروت وطلبه من المسؤولين المعنيين الذين التقاهم ضبط عمل المحافظ الالكترونية.

الحجّة أنّه يوجد حوالي 30 ألف حساب يعتبرهم الأميركيون وحلفاؤهم اللبنانيون «مجهولي الهوية» يتم عبرها تحويلات «غير معروفة المصدر»، وأن المحافظ الإلكترونية كانت تُغطي حركة حزب الله خلال الحرب. لكنّ هذه المزاعم غير مثبتة، ولا تنسجم مع واقع الرقابة القائمة على الهويات والتحويلات وحدود العمليات. يُفترض أنّ الخزانة الأميركية تعرف أنّه يُمكن مراقبة كلّ ما يمر عبر المحافظ الالكترونية، التي لا تتموضع أصلًا في موقع المعادي لمنظومة الدولار العالمية. على العكس من ذلك، تتغنّى هذه المحافظ بالالتزام بالمعايير التي تفرضها الولايات المتحدة، وتطمح دائمًا إلى تمتين علاقتها مع المسؤولين فيها لضمان استمراريتها وتوسّعها. وتعرف الخزانة أنّ إقفال المحافظ الالكترونية سيرتد سلبًا على السكان، تحديدًا أبناء القرى الذين وجدوا في هذه الأدوات المالية بديلًا لتسهيل حياتهم، خاصة من لم يكن يومًا زبونًا لدى المصارف، أو الذين لاتزال  المصارف ترفض أن تفتح لهم حسابات مصرفية. ويُحذّر أحد المسؤولين في القطاع المصرفي من أنّ هذه التعميمات ستخلق سوقًا سوداء: صرّاف مستعد لتحويل 10 آلاف دولار مقابل عمولة 500 دولار، وتحويلات تُجزّأ إلى 900 دولار لتفادي السقف، وعمليات تُنفّذ خارج النظام الرسمي. أي أن سياسة «الخنق» لن تُعيد الناس إلى المصارف، بل ستدفعهم إلى بدائل أكثر خطورة وأقل شفافية.

بعد الأزمة، ارتفع عدد المؤسسات المالية الإلكترونية بنسبة 127% بحسب أرقام مصرف لبنان: من 11 شركة عام 2019 إلى 25 شركة عام 2025. كما ارتفع عدد نقاط المبيع من 2595 إلى 3955 خلال الفترة نفسها، أي الأجهزة أو النقاط التي تُنفّذ عبرها عمليات الدفع والسحب. واللافت أنّ أجهزة الصراف الآلي تراجعت بنسبة 30% (من 2035 إلى 1412)، ما يعني أن ارتفاع نقاط المبيع جاء أساسًا نتيجة انتشار الشركات المالية الجديدة. جغرافيًا، يتركّز نحو 49% من المؤسسات في بيروت وجبل لبنان، مع توسّع ملحوظ في المناطق الريفية (باستثناء الجنوب المتضرّر بالحرب الأخيرة). يعني أنّ التضييق على المحافظ الرقمية يعكس سياسة مالية تخدم المصارف وليس المواطنين، ويطرح سؤالًا كبيرًا عن جدوى السياسات النقدية في تعزيز الثقة بدل اختناق السوق.

إذًا بينما تشهد المحافظ الرقمية نموًا عالميًا غير مسبوق وتقدّم بديلاً فعالاً للمعاملات المالية، يختار مصرف لبنان تضييق الخناق عليها، بحجة ضبط السوق ومكافحة المخاطر. الإجراءات الأخيرة، من سقوف صارمة إلى تحديث نماذج KYC، لا تخنق التحويلات فحسب، بل تدفع المستخدمين نحو بدائل غير رسمية وأكثر خطورة. 

 

اقرأ المزيد من كتابات ليا القزي