«المالية»: معيب ألّا نتفق على قانون الفجوة
يُنقل عن رئيس مجلس النواب، نبيه برّي إنّه كان موعودًا من رئيس الحكومة، نوّاف سلام أن يتم الانتهاء من العمل على مشروع قانون الفجوة المالية (الخسائر في ميزانية مصرف لبنان) بتاريخ 15 تشرين الأول، ولكن لا يبدو أنّ مسار العمل يُبشّر بالخير، ولا يُتوقّع أن يُرسل المشروع إلى المجلس النيابي لا في نهاية تشرين الأول ولا تشرين الثاني، ولا حتى مطلع السنة الجديدة.
أين أصبح مشروع قانون الفجوة، الذي كان يُفترض به - منطقيًا - أن يسبق قانون إصلاح القطاع المصرفي، وكلّ القوانين المالية؟ عاد مرّة جديدة إلى ملعب اللجان والمستشارين والمدققين بالحسابات. يعني، وبالإذن من زياد الرحباني، عسى أن ينتهي العمل على هذا المشروع ونحن «بعدنا طيبين... قول الله».
في 25 أيلول الماضي، نُظّمت محاضرة في مصرف لبنان، ترأسها الحاكم كريم سعيد وحضرها عدد من المصرفيين. في تلك الجلسة، أعاد سعيد تقديم رؤيته لحلّ الفجوة المالية، بالقول إنّه يوجد:
- 2 مليار دولار ودائع، لا أحد يُطالب بها، سيتم شطبها.
- 5 مليار دولار، دُفعت كفوائد غير مُستحقة، سيتم شطبها.
- 23 مليار دولار هي عبارة عن «ودائع فيها شوائب» (وهو التعبير الجديد الذي أُدخل إلى النقاش بدل ودائع «مشروعة» و«غير مشروعة».
- ويوجد 32 مليار دولار كودائع سيستبدلها مصرف لبنان بسندات يُصدرها هو تُدرج على البورصة، من غير المعلوم بعد إذا سيتم ربطها بالذهب لإعطائها قيمة أم لا.
وبحسب هذه الحسابات التي قدّمها سعيد، يعتبر أنّه لا يتبقى لديه سوى 21 مليار دولار لردّها، على فترة 5 سنوات.
ماذا عن دين الـ16.6 مليار دولار؟ لم يُناقش أمام المصرفيين بالتفصيل. يُذكر أنّ هذا الدين ظهر للمرة الأولى في شباط الـ2023، حين قرّر رياض سلامة قبل تسليمه مركزه إضافة المبلغ إلى بند «قروض للقطاع العام» في ميزانية مصرف لبنان، كدين على الدولة بدل الدولارات التي «صرّفها» مصرف لبنان لمؤسسة كهرباء لبنان، رغم أنّ الحكومات كانت تدفع هذه الأموال لمصرف لبنان، بالعملة التي تسدّد بها للقطاعين العام والخاص، أي الليرة اللبنانية. التركيز حوله يتمّ داخل لجنة مُشتركة تضم مصرف لبنان (ينوب عنه النائب الثاني لحاكم البنك المركزي، مكرم بو نصّار)، وزير الاقتصاد عامر البساط (الذي يتم التعامل معه كـ«وزير مالية» نواف سلام)، وزارة المالية (يُمثّلها كلّ من سمير حمود، اسكندر حلاق وحسين طرّاف)، وقد تعاقد مصرف لبنان مع شركة «كاي بي أم جي - KPMG» (وهي واحدة من أربع أكبر شركات محاسبة في العالم) لتتولّى التدقيق - من جديد - في حسابات «المركزي»، وتحديدًا دين الـ16.6 مليار دولار، الذي يُصرّ كريم سعيد على تحميله للخزينة العامة.
«العملية مُعقّدة»، تقول مصادر وزارة المالية في حديث مع «كافيين دوت برس»، مُضيفةً أنّه «لشيء مُعيب أن تكون قد مرّت ست سنوات على الانهيار، وحوالي الـ8 أشهر من عمر الحكومة الجديدة، ولا نتمكّن من إرسال مشروع قانون حول الفجوة».
أين تكمن العقدة تحديداً؟ تُجيب المصادر بأنّه «توجد مصلحة المودعين وغير المودعين الذين يجب أن تُدافع الحكومة عن مصالحهم. وهناك قطاع مصرفي يُحاول تأمين مصالحه والاستمرار في خدمة البلد والمودع. وثالثًا، لدينا مصلحة مصرف لبنان الذي يحتاج إلى إعادة رسملة. ورابعًا، هناك مصلحة الخزينة العامة التي لا يُمكن لها أن تحتمل دينًا جديدًا. دراسة الأرقام تُحاول أن تأخذ في الاعتبار هذه المصالح الأربعة، والحقيقة أنّنا نواجه تضاربًا بينها».
من المستغرب أن تكون الوقائع والمسؤوليات واضحة جدًا، وصدرت حولها تقارير محلية ودولية، تُثبت وجود قطاع مصرفي بقيادة مصرف لبنان مارس أكبر عملية خداع على المجتمع والدولة، وفي الوقت نفسه يتعذّر إصدار خطّة تضع حدًّا للانهيار والخسارة، لأنّه وببساطة من تسبّب أو شارك بالأزمة لا يزال حاضرًا وبقوة في مراكز القرار.
في ظلّ هذا الصراع غير المتوازن بين المواطنين - الدولة - القطاع المصرفي، يأتي صندوق النقد الدولي «الذي يرفض أن يُوقّع اتفاقًا مع الدولة اللبنانية إذا كانت مديونيتها مرتفعة. فهو يهمّه أن يبقى الدين العام ضمن هوامش مُعيّنة، حتى يضمن حقّه بأن تتمكّن الدولة من دفع قيمة القرض له»، تقول مصادر «المالية»، مُضيفةً بأنّهم «في الوزارة نهتم بمصلحة الناس وسُمعة البلد والثقة بالقطاع المصرفي. لا يُمكننا أن نتعامل مع الملف كعملية حسابية بسيطة، يجب أن نتفق حول المبادئ التي تحكم العمل. وهنا الخلاف الحقيقي بين جميع القوى المعنية بقانون الفجوة، وليس في ما خصّ دين الـ16.6 مليار. هذا الأخير سيُحلّ قريبًا، وقد قرّرنا القيام بتدقيق جديد بالحسابات ليكون هناك تفسير مُشترك، ونتفّق كيف يُمكن تسجيل البند: دين على الدولة أم خسارة في حسابات مصرف لبنان تتطلّب رسملة من جانب الدولة؟».
المشكلة الأساسية إذًا هي عدم التوصّل إلى تصوّر مُشترك حول مبادئ الإصلاح المالي بطريقة عادلة ومُحقّة. وهو ما تؤكّده مصادر مصرف لبنان في حديثها مع «كافيين دوت برس»، التي تُراهن على أن يصدر تقرير شركة «كاي بي أم جي - KPMG» لمصلحة «المركزي» بتسجيل رقم الـ16.6 مليار دولار كدين على الدولة، «وعندئذ لا يُمكن لأي طرف المعارضة». علماً أنّ مصرف لبنان يعترف ويُدرك بأنّ «صندوق النقد الدولي مُتشدّد جدّاً، ولا يُريد أن يُحمّل الدولة دينًا على المدى البعيد». ومصرف لبنان الذي يُريد أن يستنجد بشركة محاسبة عالمية ويُقدّمها كمرجع مُستقل يجب الأخذ بتقريره (من دون الدخول في نقاش حول الفضائح التي تُنشر حول عمل هذه الشركات في العالم)، هو نفسه رفض سابقًا الاعتراف بتقرير شركة «ألفاريز آند مارسال» (تولّت التدقيق سابقاً في حسابات «المركزي») والتي لم يرد فيها أي ذكر لدين الـ16.6 مليار دولار. على العكس من ذلك، كُتب في التقرير أنّ ما حصل بين مصرف لبنان ووزارة المالية هي عمليات قطع، عبر تسديد الديون بالدولار من حسابات المالية بالليرة لدى مصرف لبنان، يوم كان سعر الصرف مُستقرًّا، ولدى «المركزي» قدرة على استبدال الليرات بدولارات من دون خسارة قيمتها.
لا يزال مصرف لبنان مُصرًّا على أن تُساهم الدولة اللبنانية بتسديد الخسائر «ليس فقط عبر إصدار سندات خزينة، ولكن عبر توفير السيولة النقدية، بقيمة مليار و200 مليون دولار على فترة خمس سنوات». فبالنسبة إليه، إذا دفعت الخزينة العامة هذا المبلغ، «وساهمت المصارف أيضاً بمليار و200 مليون دولار على خمس سنوات، وخصّص مصرف لبنان 10 مليار دولار نقداً من الاحتياطي الالزامي، يُمكن حينئذ ضمان تسديد الودائع كاملة حتى حدود الـ150 ألف دولار على فترة خمس سنوات». ولكن في الوضع الحالي، «ومع رفض الخزينة العامة المشاركة بتوفير السيولة، بحجة أنّها تُخصص المبالغ لإعادة الإعمار وتصحيح أجور القطاع العام، لن نقدر سوى على ردّ الودائع ما دون الـ100 ألف دولار».
هل يُطبّق مصرف لبنان مرة جديدة أساليب رياض سلامة في التهويل وتحميل الدولة كامل المسؤولية؟ الأكيد أنّه لا يمكن التعامل مع دين الـ16.6 مليار دولار وكلّ النقاش حول الفجوة كأرقام عابرة في الميزانية، بل كاختبار جديد لصدقية الدولة ومصرفها المركزي. فكلّ تأجيل أو تدقيق جديد يُخفي خلفه معركة نفوذ ومصالح، أكثر مما يُعبّر عن إرادة إصلاح. ما يجري في مشروع قانون الفجوة لم يعد نقاشًا محاسبيًّا، بل هو صراع على من يملك القرار المالي في البلد ومصلحة من ستتقدّم.