الدولة تغرق شعبها: فيضان الطرقات كخيار سياسي
تجمع مياه قرب وزارة العمل ( عن صفحة اليازا)
أقل من نصف ساعة من المطر الغزير أمس كانت كفيلة بإغراق العديد من الطرقات واحتجاز السائقين داخل سياراتهم. الخبر يتكرّر للمرة… لا نعلم. توقّفنا عن العدّ. فمع كلّ موسم جديد، تتكرّر التوقعات الجوية والتحذيرات والتحضيرات لموسم الأمطار، وتتكرّر المفاجأة من حدوث المصيبة، حتى تحوّل معها الموضوع إلى نكتة.
يحلو للبعض إلقاء اللوم على «غياب الحوكمة». الكلمة السحرية التي ترد في خطابات جميع المسؤولين في البلد. العهد عهد حوكمة. والحكومة تضع الحوكمة نصب عينيها. والإدارات تعمل على تعزيز الحوكمة. والمؤسسات الدولية تدعو إلى تطبيق الحوكمة.
أين الحوكمة؟
يُفترض أن تعمل الحوكمة في القطاع العام (وهي تختلف عن الحوكمة في القطاع الخاص) على حماية المصالح العامة وتقديم خدمات فعّالة، ضمان العدالة، تعزيز الشفافية، ومحاربة الفساد. تُركّز الحوكمة في القطاع العام على المساءلة العامة والشفافية لأنّ الدولة مسؤولة أمام مواطنيها وليس أمام مساهمين هدفهم الربحية. لذلك، يستند تطبيقها إلى وجود نظام قضائي قادر وعادل، أجهزة رقابية فاعلة، نصوص قانونية لا تخدم القوي، إدارة رشيدة للموارد العامة لا تستهدف بيعها بل الاستفادة منها، توزيع الخدمات بطريقة عادلة… هذا نظريًا. أما عمليًا، فالحوكمة هي شعار دعائي يستر فشلًا بنيويًا. الحوكمة كما تُروَّج اليوم ليست أداة للمساءلة، بل واجهة تقنية لتبرير سياسات تخدم رأس المال على حساب المصلحة العامة.
تزامنت شعبية مصطلح الحوكمة مع تزايد تأثير المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد. استُفيد منها كأداة لفرض سياسات نيوليبرالية: تقييد الإنفاق العام، الخصخصة، تحويل إدارة الدولة إلى أداة لضبط الأسواق، استغلال الموارد العامة لدفع الديون والفوائد، وعدم الاستثمار في الخدمات والبنى التحتية.
يقول المتخصص في الجغرافيا السياسي والاقتصادي البريطاني، ريتشارد بيت أنّ السياسات الاقتصادية العالمية لا تُفرض فقط من خلال الدول، بل من «مراكز قوة هيمنية» تضم خبراء يسيطرون على صنع القرار الاقتصادي العالمي. انطلاقًا من هنا، يرى بيت في كتابه «جغرافية القوة: صناعة السياسة الاقتصادية العالمية» أنّ ما يُسمّى «الحوكمة العالمية» غالبًا ما تكون واجهة لتوجيه الاقتصاد النيوليبرالي، «لا أداة لتحسين العدالة أو رفاهية الشعوب». وفقًا له، تستخدم المؤسسات العالمية خطاب الحوكمة «لإضفاء شرعية على سياسات تحرير السوق والخصخصة، بينما تستمر بإعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية غير المتوازنة عالميًا».
يتبنّى السياسيون مصطلح الحوكمة، ويعدون بتطبيقه بلا فهم حقيقي لأبعاده السياسية أو الطبقية. صار شعارًا تقنيًا يُتداول في الخطابات والبيانات ليُرضي المؤسسات الدولية. في لبنان، لا يتم حتى تطبيق الشق النظري. الحوكمة لا يجب أن تكون مجرد مصطلح مطلوب من الخارج؛ فلا شيء يمنع تحوّلها إلى ممارسة سياسية واجتماعية تهدف للشفافية والمساءلة الفعلية، استثمار الأموال العامة في البنى التحتية، وحماية المواطنين من الفشل المؤسسي، وإعادة توزيع الموارد بشكل عادل. لكن الكلام عن الحوكمة حاضر، فيما الممارسة غائبة. يظهر ذلك في قصر العدل، مصرف لبنان، الإدارات العامة، والهيئات الرقابية…
يُعيدنا ذلك إلى فيضان الطرقات أمس. الموضوع يتحوّل في كلّ مرة إلى مشاكل تقنية تتعلق بـ«سوء الإدارة»، وهو تجريد مقصود لجوهر المشكلة. القصة ليست كيفية إدارة الدولة، وفي وجود محاسبة أم لا، بل في خدمة من تُدار الدولة والإدارة العامة. المشهد «الطبيعي» لغرق الطرقات يبرز نتيجة هذا الفشل.
الطرقات مُدمّرة، البنى التحتية مُهملة، والمسؤولون يصرفون الأموال على الاستدانة وتمويل كلفة الدين. المعاناة السنوية التي يعيشها اللبنانيون ليست مفاجئة، بل نتيجة منطقية أولًا لأن الحكومة تهتم بتسويق موازنة عامة تُضخّم الإيرادات وتُقلّص العجز بطريقة غير علمية، لتظهر وفراً في الحسابات واستدامة في الدين العام، فتبدو «صحية» أمام المجتمع الدولي قادرة على استقطاب المزيد من القروض. وثانيًا لغياب الاستثمارات الحقيقية في البنى التحتية، ما يجعل البلاد هشّة أمام أي كارثة طبيعية.
باسم حفظ «استقرار المالية العامة»، يُربط الإنفاق الاستثماري بتحقيق فائض، فيصبح تحسين حياة الناس مشروطًا بأرقام ومؤشرات وُضعت لاستعمارهم لا لتأمين راحتهم. علمًا أنّ الأصول الاقتصادية تنص على أن هدف الاقتراض العام يجب أن يكون الاستثمار وتحسين البنى التحتية، لا دفع الفوائد ومراكمة الثروات الشخصية.
حين تُدار الدولة كمكتب محاسبة يُجمّل الأرقام بدل أن يخطط للمستقبل، تتحوّل الفيضانات والكوارث إلى مشاهد طبيعية، لا استثناءات. كل غرق، كل أزمة، هي نتيجة منطقية لإهمال ممنهج، وليست مفاجأة. هنا لا المسألة مسألة غياب الحوكمة أو تطبيقها بالشكل «الصحيح»، بل الحوكمة هنا هي عقلية: أي اقتصاد، أي دولة، تُدار بما يخدم مصالح من يملك السلطة والمال. المشكلة ليست معايير جيدة أم لا، بل صراع سياسي حقيقي يحدد لمن تُصرف الأموال ومن يستفيد من الدولة.