الأزمة اللبنانية المزمنة: هيكلية لا حدود لها
هو الحديث نفسه يتكرّر بين معظم أصحاب المصالح التجارية الذين يتقاسمون الهواجس نفسها. «في كلّ الدول، تفتح الناس مصالح لتسترزق بينما نحن في لبنان نفتحها لنُسدّد الديون ونبقى نُحارب لنؤمّن التكلفة»، يقول أحمد. الثقل الأكبر ينزل على أبناء الضاحية الجنوبية لبيروت، بلدات الجنوب المغضوب عليها من الجيش الإسرائيلي، وبعض بلدات البقاع. هؤلاء، يعيشون منذ عامين على الأقلّ في حالة طوارئ سببها الحرب الصهيونية. إلا أنّهم جزء من مشهد لبناني عام يعيش في أزمة دائمة (Permacrisis) منذ العام 2019، يوم لم يعد من الممكن إخفاء هشاشة نموذج اتفاق الطائف الاقتصادي وعجزه عن الاستمرار.
في الأسابيع الأخيرة، ومع تزايد الضغوط الأميركية - الإسرائيلية والتهديدات بشنّ عدوان شامل جديد، بدأ بعض أصحاب المحلات والتجّار رحلة البحث عن «محلّات بديلة» تحسّبًا لنزوح مُحتمل. منهم من فضّل إقفال مصلحته هربًا من أصحاب الملك الذين بدأوا رفع كلفة الإيجار، ومن النفقات التشغيلية المرتفعة، مقابل ضعف الإقبال والطلب في السوق. أما من أبقى على أبوابه مفتوحة، فلأنّه لا يزال يملك القليل من مقوّمات الاستمرار، مصلحته تؤمّن له قوته الشهري، ولا يملك خيارًا أفضل من الصمود.
مشهد الأزمة المزمنة ليس حكرًا على المناطق المُهدّدة إسرائيليًا. «تغيّرت الأيام. لم نعد نبيع ربع ما كنّا نبيعه قبل خمس أو عشر سنوات. أحوال الناس تبدّلت، نلتمس ذلك من أحاديثهم وطلباتهم وحركتهم. كما أنّنا لم نعد نستورد كميّات كبيرة كما كنا في الماضي»، على ذمّة جوجو، صاحبة واحد من أعتق محلات الأحذية في كسروان. الأسواق انكمشَت. اقتصاد تتآكل فيه الأرباح ليس بسبب ضعف الطلب فقط، بل لأنّ كلّ ليرة تُجنى تُدفع لتغطية الخطر، أكان أمنيًا أم نقديًا أم ماليًّا أم عقاريًّا… صاحب المصلحة لا يخطط لثلاث أو خمس سنوات. بالكاد يخطط لشهر واحد. مشاريع قصيرة العمر، تخزين محدود للبضاعة، وهجرة للكفاءات. في هذه الاقتصادات، الأرباح لا تتراكم والمشاريع لا تكبر، كلّ شيء يبقى في مرحلة «الحدّ الأدنى» من البقاء. كلام أبناء الضواحي والبلدات يعكس النبض الاجتماعي الحقيقي للمجتمع اللبناني، الذي يحجبه «تفقيس» المقاهي والمطاعم، واستهلاك طبقة لا تتعدّى نسبتها في أحسن الأحوال الـ5%، والتي لا تؤدّي إلى أي نمو. تشير دراسة للبنك الدولي حول الاقتصادات الهشّة إلى أنّ «القطاع الخاص في الدول المتضرّرة من النزاعات يتّسم بصغر الحجم، قصر عمر المؤسسات، وتراجع الاستثمار طويل الأمد بنسبة قد تصل إلى 60% مقارنة بالدول المستقرّة». ينطبق هذا على الحالة اللبنانية. تحوّل الاقتصاد إلى إدارة ندرة لا إدارة إنتاج. وهو تجسيد لما يُسمّى باقتصاد الصدمات المُزمنة. على السطح يبدو أنّه يوجد «حالات طوارئ» محدودة يعيشها المجتمع من انهيار الـ2019، إلى وباء كورونا، والانفجار في مرفأ بيروت، وأخيرًا الحرب الاسرائيلية المستمرة. لكن في العمق ما يعيشه السكّان في لبنان هو تآكل وتفكيك للنظام ومؤسساته.
حين تواجه المجتمعات أزمات هيكلية لا حدود لها، تتراكم الآثار التي لا حلّ لها أيضًا، كالركود حين يشهد الاقتصاد فترات مطولة من انعدام النمو أو البطء فيه، مصحوبًا بارتفاع معدلات البطالة وركود الأجور. يُدَمَّر الانسان، فتُفقد المهارات من المجتمع. يهرب رأس المال. تتوقّف المشاريع المنتجة. وتدخل الدولة في مرحلة من الانكماش، فتتوقّف النفقات الاستثمارية ممّا يعني تقادم البنية التحتية وكل ما من شأنه أن يُساعد في عملية التطوير. تواجد هذه العوامل يحدّ من إمكانيات التعافي المستقبلية. وفي بلد يُسيطر عدّوه على جوّه وبحره وبرّه، وسلطاته تُدار بمصالح الخارج، تُصبح الأزمة فيه جزءا من بنيته.
في كتاب «العيش في ظلّ الأزمات»، الذي ألّفته مجموعة من العاملين في البنك الدولي، بقيادة أخصائي تقييم رئيسي في مجموعة التقييم المستقلة (IEG)، راسموس هيلتبرغ، تم الاستناد إلى بحث شمل 17 دولة نامية ودولة تمر بمرحلة انتقالية، ليصف آثار أزمات الغذاء والوقود والأزمة المالية على حياة الناس العاديين، وما يفعله الناس للتأقلم. يتحدث الكتاب عن المصاعب والضغوط الناجمة عن العيش في فترة أزمات حادة، وسعي الناس للحصول على وظائف أكثر والعمل لساعات أطول لتغطية نفقاتهم، وكيف يبدو عبء التأقلم مختلفًا في كثير من الأحيان بين النساء والرجال والشباب، وعدم انتظام الحضور المدرسي وانخفاض جودة الرعاية والتغذية والتعليم للرضع والأطفال، والضغوط والتوترات في الحياة الأسرية والمجتمعية الناجمة عن الصعوبات الاقتصادية. قارن المؤلفون بين الصدمات الفردية (كفقدان الوظيفة أو ارتفاع أسعار المواد الغذائية أو إفلاس المؤسسة…) والصدمات النظامية، ليستنتجوا بأنّ الصدمات النظامية لها عواقب وخيمة أكثر بكثير من الصدمات الفردية. فشبكات الأمان الاجتماعي، الرسمية وغير الرسمية، «بالغة الأهمية في مساعدة الناس على التكيف، لكنها أقل فعاليةً بشكل واضح خلال الصدمات الشاملة». أولًا، التعامل مع الصدمات المتعددة والممتدة «أدّى إلى تآكل قاعدة مدخرات الأسر وأصولها، وتركها بموارد محدودة لمواجهة الصدمة التالية». ثانياً، «تنضب مصادر الائتمان الرسمية وغير الرسمية خلال الأزمات». ثالثًا، «أصبحت شبكات الأمان غير الرسمية كالهبات، والتحويلات المالية، وما إلى ذلك أقل موثوقية، حيث واجه أفراد المجتمع الميسورون، الذين كانوا عادةً ما يتبرعون، صعوبات مالية. وقد أدى ذلك إلى تقنين المساعدة وتوجيهه بشكل أكثر دقة». لهذه الأسباب، يوصي المؤلفون «بالاستثمار في مصادر أكثر رسمية ومنهجية للمرونة»، أي أن تلعب الدولة دورًا كبيرًا في توفير شبكات الأمان والحماية للمجتمع.
هذا التشريح لما يحصل حين تتحوّل الصدمات من أحداث عابرة إلى بيئة دائمة، يختبره لبنان اليوم. فالصدمات الفردية التي عرفها اللبنانيون لعقود، تحوّلت منذ عام 2019 إلى صدمات نظامية تُصيب المجتمع بكامله، وتضرب قدرة الأفراد على امتصاصها. وحيت تُدار الحياة اليومية تحت ظلّ حرب مفتوحة وانكشاف مالي تامّ، يصبح الاستثمار في شبكات الأمان والحماية الاجتماعية ليس سياسة «رفاهية»، بل الحدّ الأدنى الضروري لإعادة تركيب المجتمع ومنع انهياره الكامل.