«الانتظام المالي» بلا شرعية: بين الضغوط الخارجية وحسابات الداخل

«الانتظام المالي» بلا شرعية: بين الضغوط الخارجية وحسابات الداخل

مشكلة مشروع قانون «الانتظام المالي واسترداد الودائع» - الذي لا يؤمّن الانتظام ولا يضمن استرداد الودائع - أنّه صادر عن سلطة فاقدة للشرعية الشعبية. سلطة فُرضت على اللبنانيين باتصال عربي، وتعمل بموجب بند أعمالٍ إقليمي - دولي. تسعى حصرًا إلى استمالة رضا المؤسسات الدولية، تحديدًا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وإلى تطبيق الإملاءات التي تصلها من عواصم القرار الإقليمية والغربية. فكانت النتيجة تجميعة مواد قانونية تُحاول استرضاء مصرف لبنان والمصارف والمودعين، والموازنة بينها كما لو أنّ أصحاب الحسابات أيضًا شركاء في الأزمة ويستوجب عليهم تحمّل مسؤولية مع الذين تسببوا بها. المشروع يفتقد للهوية الاقتصادية - السياسية. ولأنّه وُضع بهذه الخلفية الاسترضائية، يواجَه اليوم بمعارضة شرسة من المصارف والمودعين وغير المودعين. الجميع مُتوجّس منه، باستثناء حاكم مصرف لبنان كريم سعيد الذي يحاول اللعب على جميع الخيوط. شارك مع الفريق الحكومي في وضع هذا المشروع، ونال ما يُريحه كمصرف لبنان منه. في المقابل، قال لممثلّي المصارف إنّه قام بأقصى ما يقدر عليه، «في هذه المرحلة أنتم اعترضوا وأنا أقاتل معكم». وقام نائبه الثالث، مكرم بو نصار بعقد اجتماع مساء الأحد مع وزيرَي الحزب التقدمي الاشتراكي وعدد من النواب، لتوجيههم نحو رفض السير بالاقتراح كما هو. هذه الازدواجية في المواقف، وفي أكثر من مناسبة، باتت واضحة للمصارف. حتى صاحب مصرف «سوسييتيه جنرال»، أنطون الصحناوي الذي يُعدّ راعي تعيين كريم سعيد في منصبه، وصاحب حظوة لديه لا يُعلى عليها، بات اليوم يتعامل معه كإنسان «غير موثوق به». 

ضغوط قصوى رافقت مسيرة مشروع قانون «الانتظام المالي واسترداد الودائع» إلى مجلس الوزراء يوم أمس. الضغط الأول مؤيّد ومُصرّ على تمريره بصيغته الحالية، يُمثّله داخليًا رئيس الحكومة نواف سلام ووزير الاقتصاد، عامر البساط، وخارجيًا المملكة العربية السعودية. فبحسب مصادر متابعة للنقاشات الدائرة، «تعهّد سلام بتقديم أمرين قبل نهاية العام: الانتقال لتنفيذ المرحلة الثانية من اتفاقية وقف إطلاق النار مع العدّو وقانون الانتظام المالي». أما السعودية، «فتضغط لتمرير هذا المشروع، وتعتبره أساسيًا لمحاربة تبييض أموال حزب الله من جهة، وإنهاء إرث آل الحريري المالي والاقتصادي. ضرب هذا النظام المالي، هو إعلان على نهاية حقبة أسّسها رفيق الحريري». الضغط الثاني تتولّاه المصارف التجارية. داخل جمعية المصارف، تُمثّل مصارف «فرنسا بنك»، «البنك اللبناني الفرنسي»، «سوسييتيه جنرال»، «بلوم بنك»، «سيدروس بنك»، رأس حربة مواجهة القانون. وكانت هي صاحبة الدعوة إلى إعلان الإضراب والتصعيد حتى أقصى درجة «طالما أنّنا مُعرضون لخسارة كلّ شيء». في حين اعتبر مصرَفا «عودة» و«بيبلوس» أنّه لا يزال يوجد مجال للتفاوض وتحسين أوضاع المصارف. 

على المستوى السياسي، معظم الكتل السياسية تعترض على صيغته الحالية. ويُحكى عن أنّ التوجّه هو رضوخ الوزراء للضغوط التي تُمارسها جمعيات المودعين بكل انتماءاتها، والمصارف، وتأخذ بملاحظات الحقوقيين والخبراء، وتُحيل المشروع إلى لجنة فرعية لإدخال تعديلات عليه، «إلا في حال تلقّى الوزراء الاتصال الشهير الذي يجعلهم يسيرون باتجاه خيار ما»، تقول مصادر متابعة.

أخطر ما في المشروع - بعيدًا عن مصالح المصارف الخاصة - أنّه لا ينطلق من سياسة واضحة لحلّ الأزمة، ولا برنامج إصلاحي، ولا إعادة الودائع، بل تنظيم الخسارة، شراء المزيد من الوقت، وإقناع صندوق النقد بتوقيع برنامج القرض. تنظيم الخسارة يعني تحديد من يخسر، وبأي ترتيب، وتحت أي غطاء قانوني. المودع ليس صاحب حقّ في هذا المشروع، بل صار طرفًا في التسوية. والدولة ترضخ مع مصرف لبنان في الاعتراف بتحمّلها دين الـ16.5 مليار دولار، حتى ولو كانت ستُسجّله كسند من دون تاريخ تسديد نهائي (Perpetual bond)، مقابل دفع فائدة بحوالي 2% لمصرف لبنان. فعمليًا، سيرتاح مصرف لبنان دفتريًا من خصم هذا الدين، ولكنّ الدولة ستُحمّله لخزينتها ولأجيالها المستقبلية. 

هناك العديد من النقاط المبهمة في المشروع. يتعمّد مشروع القانون ترك مفاصل أساسية من دون تحديد واضح، لأنّ حسمها سيكشف طبيعة الخيار السياسي المعتمد. فآلية احتساب الأرباح المفرطة غير محددة لتجنّب فتح باب المحاسبة الفعلية، كما يُصرّ مصرف لبنان على اعتبار الاحتياطي الإلزامي جزءًا من أصوله، رغم أنّه مُقتطع من أموال المودعين، بهدف حماية ميزانيته على حساب حقوقهم. كذلك، يجري التمييز بشكل انتقائي بين أصحاب المصارف والمساهمين والمدراء من جهة الذين يعود التدقيق في حساباتهم إلى نيسان عام 2019، والمعرّضين سياسيًا من جهة أخرى الذين يُحصر التدقيق لديهم في تشرين الأول 2019، رغم تداخل الفئتين وامتلاكهما المعلومات نفسها حول حقيقة الوضع المالي منذ ما قبل الانهيار، في محاولة لحصر المساءلة وتفادي تحميل المسؤولية لشبكة أوسع من المستفيدين. أما القروض المتعثّرة والعالقة منذ ما قبل الأزمة، والحدّ الأدنى المطلوب لإعادة رسملة المصارف، وطريقة التعامل مع الأصول المنتظمة والودائع بالليرة اللبنانية، فتبقى جميعها في المنطقة الرمادية نفسها، بما يسمح بتوسيع هامش الاستنسابية في التطبيق لاحقًا.

حتى في الأسباب الموجبة لمشروع القانون، كُتب عن أنّ السندات التي سيحصل عليها أصحاب الودائع ما فوق الـ100 ألف دولار ستكون مدعومة بمداخيل وإيرادات وعائدات الأصول التي يملكها  مصرف لبنان «وأي ناتج عن بيع تلك الأصول في حال حصوله، دون المسّ بملكية مصرف لبنان لهذه الأصول». كيف سيتم بيعها إذا؟ ولماذا سيحتفظ مصرف لبنان بملكية هذه الأصول؟ هل يُقصد أنّه سيتم استثمار جزء من الذهب من دون بيعه؟ ولماذا لا يتم تحويل كبار المودعين إلى مساهمين في المصارف، وليس فقط حملة سندات؟

في هجومها على مشروع القانون، تُقاتل المصارف باسم المودعين مُدّعيةً الحفاظ على حقوقهم وأموالهم ورفضها المسّ بها، بينما هي في الحقيقة تُدافع عن ملكيتها للمصارف ورفضها التخلّي عنها لصالح مُساهمين آخرين. فمشروع القانون ينصّ وبشكل رسمي على أنّ قيمة أصول مصرف لبنان تراجعت ولم يعد قادرًا على الإيفاء بالتزاماته تجاه المصارف، لذلك يجب تحديد حجم الفجوة المالية بشكل رسمي. هذا اعتراف بأنّ أموال المصارف، والودائع غير موجودة بالكامل. يجب أيضًا على أن يخضع كلّ مصرف لتقييم جودة أصوله من شركة تدقيق دولية مستقلة (عمليًا لا يوجد شركة تدقيق مستقلة، والدليل حجم المستندات التي تُثبت طوّرتها عالميًا بممارسات غير مهنية) لتحديد الخسائر الحقيقية، حجم رأس المال المتآكل، وحجم الديون المعدومة. من بعدها يبدأ تحمّل الخسائر من الداخل، بدءا من أموال المساهمين ورأس المال الأساسي (tier 1)، وبعدها رأس المال المساند المُكوّن من أدوات دين خاصة وسندات طويلة الأجل (tier 2). الخسائر في مشروع القانون تُمتصّ من داخل النظام المصرفي من دون أن يدعو إلى إفلاس القطاع. على العكس من ذلك، يُقدّم له أدوات النجاة. ولكنه يضرب مصالح أصحابها والمساهمين بها، وينسف سردية الدولة سرقت الودائع، ويُجبر المصارف على إدخال مساهمين جدد أو الذهاب نحو خيار الدمج أو التصفية. وهنا لُبّ الموضوع، فأصحاب المصارف لا يريدون فقدان السيطرة على هذه المؤسسات ولا السماح بدخول لاعبين جُدد. 

ترفض مصادر المصارف هذا الكلام، وتعتبر أنّ «أصحاب المصارف والمصارف في لبنان هم كيان واحد. لبنان لا يُشبه ايسلندا ولا قبرص ولا الولايات المتحدة بعد أزمة الـ2008. ضرب رأس مال المصارف يعني نسف النظام القائم. لمصلحة ماذا؟ من سيبني البديل؟ من أين ستأتي السيولة والرساميل الجديدة؟». بالنسبة إليها «هناك ضياع على مستوى الحكومة. هل معقول أن يُنقل عن نواف سلام أنّ المهم إنصاف 85% من أصحاب الودائع الذين يملكون حسابات تحت الـ100 ألف دولار؟ متى تحوّل النظام المصرفي إلى قجّة للمودع الصغير؟». 

في المحصلة، أنّه لا الدولة تُقدّم رؤية اقتصادية بديلة، ولا المصارف مستعدة للتنازل عن ملكيتها، ولا المودع يُعامَل كصاحب حقّ. الجميع يُفاوض، باستثناء من خسر فعليًا. في كل هذا النقاش يغيب السؤال الأساسي: أي نظام مالي يريد لبنان، ولمصلحة من؟ إلى أن يُطرَح هذا السؤال بوضوح، سيبقى أي قانون يُناقَش، مهما كانت تسميته، مجرّد أداة لإدارة الانهيار، لا للخروج منه.

 

اقرأ المزيد من كتابات ليا القزي