العقوبات الغربية تسقط أمام السيادة الوطنية: هل يُطعن بتعميم نصار؟

العقوبات الغربية تسقط أمام السيادة الوطنية: هل يُطعن بتعميم نصار؟

الوزير عادل نصار

يُطلق عالم الاجتماع والفلسفة الإيطالي ماوريتسيو لازاراتو على العالم الحالي توصيف «الإمبريالية الدولارية». ويعتبر أنّ الإمبريالية الجديدة، وهي ذات طبيعة مالية ونقدية، «أكثر جذرية وشراسة في مركزيتها للقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية». وهي مثل الإمبريالية التي سبقتها «تؤدّي حتماً إلى الحرب». يُقدّم لازاراتو في كتابه «الحرب والمال» بحثًا عميقًا لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم، وتطوّر الإمبريالية منذ زمن الفيلسوف الألماني كارل ماركس إلى هذه الأيّام. التعريف الأكثر إيجازًا للإمبريالية الجديدة «هو من خلال ثنائية المال (العملة، أي الدولار) والحرب. وهما ما يُشكّلان أسلحتها الأكثر رُعباً». 

يحقّ للمجتمعات فعلاً أن تقلق من عالم يتحكّم به كلّ شيء باستثناء العدالة. وللُبنان، الذي لم يكن يوماً في موقع المعادي للولايات المتحدة، حقّ مُضاعف. فبعد سنوات طويلة من «الطمأنينة» التي عاش بها المجتمع اللبناني نتيجة ربط العملة المحلية بالدولار الأميركي وتقديمها كعامل استقرار له، لم يعد من مجالٍ لإخفاء هذا «الرُعب» الناتج عن سلاح الدولار والعقوبات، وإمكانية تطوّره، أكثر من أي وقت سابق، إلى عامل توتّر داخلي. 

هل يندرج التعميم الأخير الرقم 1355، الصادر عن وزير العدل، عادل نصّار والموجّه إلى كتّاب العدل، في هذا الإطار؟ 

لُبّ التعميم هو الامتناع عن تنظيم معاملات للمُدرجين على لائحة العقوبات الوطنية والدولية. ورغم التمييز الشكلي الذي يُحاول مؤيدو القرار التسلّح به للتفريق بين عقوبات أميركية وأخرى دولية صادرة عن مجلس الأمن، إلا أنّ الجهة الأساسية في فرض عقوبات على أفراد وكيانات لبنانية، ليست مجلس الأمن، بل الولايات المتحدة الأميركية. خاصة أنّ التعميم يصدر بعد قرار هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، في تموز الماضي، وضع إشارة منع تصرّف بعقارات تعود ملكيتها إلى لبنانيين شملتهم عقوبات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأميركية (المعروف باسم «أوفاك»). ويأتي في سياق فرض ضغوط اقتصادية ومالية قُصوى على البلد. أما لائحة العقوبات الوطنية فهي أمرٌ غريب عن النظام اللبناني، الذي يفرض إجراءات احترازية في حالات مُعينة تكون مقرونة بحُكم قضائي، ولا يتحدّث عن «لائحة عقوبات» على غرار الـ«أوفاك» وغيرها. 

تعميم وزير العدل يتضمّن نقاط ضعف عدّة، أهمها أنّه يسبق مشروع قانون قدّمه نصار إلى مجلس الوزراء أيضاً حول «الرقابة على كتّاب العدل». فلم يُفهم لماذا يُسابق الوزير نفسه، رغم نصيحة البعض له بأنّ التوقيت غير مناسب. إلا أنّ أساس القضية ليس في تفاصيل التعميم وسياقه، بل في جوهره الذي يمسّ مبدأ عامًا خطيرًا. فالعقوبات الغربية إجراءات إدارية، وليست إدانات قضائية، تُفرض من قِبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية أو جهات تنفيذية أخرى، وليس من قِبل محكمة. ويُعلن «أوفاك» أنّ العقوبات هدفها «الأمن القومي والسياسة الخارجية». هي ليست أحكاماً جنائية. وغالباً ما تعتمد على معلومات استخباراتية أو قرارات سياسية. وحتى لو كان لهذه العقوبات طابع قانوني، إلا أنّ تأثيرها لا يتعدّى حدود الدولة التي أصدرتها. يعني إذا فرضت الولايات المتحدة الأميركية، أو بريطانيا، أو الاتحاد الأوروبي، عقوبات على رجل أعمال لبناني، فهذه العقوبات يُعمل بها فقط داخل حدود الكيان الذي أصدرها، ولا يُعتبر لبنان مُلزمًا بأي شكل من الأشكال بتنفيذها. أي محاولة لتغيير هذا الواقع، يُعدّ مسًّا بالسيادة. أما حين تُبادر المصارف المحلية إلى إقفال حسابات الشخص المُستهدف (رغم أنّها أيضاً إجراء غير مُلزم)، وأحيانًا المبالغة بإقفال حسابات أقربائه، فتُحاجج بأنّ التعاملات بالدولار الأميركي وخضوع القطاع المصرفي للنظام المالي العالمي، يقتضي الاحتياط والالتزام بالأوامر الأميركية. وهنا نعود إلى زمن «الإمبريالية الدولارية».

التعميم الموجّه إلى كتّاب العدل، ورد حرفياً في «تقرير حول الإجراءات التصحيحية المطلوبة من وزارة العدل ضمن خطّة عمل الفاتف»، لخروج لبنان عن اللائحة الرمادية. وقد عملت عليه مجموعة حقوقية وقضائية، برئاسة المحامي كريم ضاهر، وقدّمته إلى وزارة العدل قبل حوالي الخمسة أشهر. شُكّلت اللجنة لبحث بنود خطة عمل «مجموعة العمل المالي - فاتف» للبنان، وكان يُفترض أن يكون التعميم جزءًا من سلسلة تعاميم تتعلّق بالنيابة العامة التمييزية، التعاون الدولي، السجّل التجاري، عمل هيئة التحقيق الخاصة في مصرف. ولكل واحدة من هذه التعاميم، مشاريع قوانين جاهزة. النقاش بين اللجنة ووزارة العدل تضمّن أن تُقدّم كل مشاريع القوانين كملفّ واحد ومتكامل، ومن بعدها تصدر التعاميم. إلا أنّ فريق الوزارة ارتأى تقسيم الملفات، والبدء من كتاب العدل. الطريق التي أصدر بها نصّار التعميم، واستباقه مجلس الوزراء، يضع علامات استفهام: هل سيتم الاكتفاء بموضوع كتاب العدل، ويُوضع في الدرج تعميم أساسي يتعلق بهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، التي تملك صلاحيات موسّعة لا تملكها أي هيئة أخرى في لبنان، ويُمكن أن تلعب دوراً فعّالاً في مكافحة الجرائم المالية، ولكنها في السنوات السابقة تستّرت على الملفات المشتبه بها؟ هل سيحمي وزير العدل المحامين الذين تطلب «فاتف» التشّدد بإجراءات مراقبتهم وضبط حركتهم المالية؟ هل يأتي التعميم في سياق الضغوط القصوى الممارسة على قسم من اللبنانيين لسحب تنازلات سياسية منهم؟   

فالتعميم يعتبر حُكمًا أنّ كلّ شخص فُرضت عليه عقوبات دولية مُرتكبًا لجرم تبييض الأموال أو تمويل الإرهاب. علمًا أنّ غالبية العقوبات لا تُقدّم دليلاً جرميًا، وتنتهي بعقد صفقة مالية، وجوهرها سياسي. في هذه الحالة، كيف سيتعامل كتّاب العدل مثلاً مع رئيس حزب التيار الوطني الحرّ، النائب جبران باسيل المُدرج على لائحة العقوبات إن أراد بيع سيارة؟ هل ستعتبره مُدانًا بتبييض الأموال ودعم الإرهاب فقط لأنّه فُرضت عليه عقوبات، فتمتنع عن إجراء معاملة له؟ لذلك، من المتوقع أن يقوم المتضررون بالطعن بالتعميم.

التهديد بإدراج لبنان على اللائحة السوداء لعدم اتخاذ إجراءات كافية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لا يُبرّر إصدار التعميم بهذه الطريقة. فيمكن للبنان أن يلتزم بمعايير مجموعة العمل المالي من دون أن يتحول إلى أداة لرهن السيادة القانونية اللبنانية أو لتنفيذ عقوبات خارجية ذات طابع سياسي، وذلك عبر اعتماد مقاربة وطنية مستقلة:

  • إصدار تشريعات وطنية تُكافح الجرائم المالية، مع رفض أي تطبيق تلقائي للعقوبات الأحادية الصادرة عن دول أو هيئات خارجية.
  • تعزيز دور هيئة التحقيق الخاصة والجهات الرقابية المحلية في متابعة التزام المؤسسات المالية والمهن غير المالية.
  • ضمان حق الاعتراض أمام القضاء اللبناني لأي شخص أو جهة متضررة من قرار تجميد أو إدراج على لائحة عقوبات.

 

اقرأ المزيد من كتابات ليا القزي