اقتصاد الكاش: أوكسجين الرأسمالية اللبنانية
ماذا يحلّ بالسيارة حين يتعطّل مُحرّكها؟ تتوقّف عن العمل. ويُصبح من غير الممكن تشغيلها من جديد قبل إصلاحه أو استبداله. المحرّك للسيارة هو شريان أساسي لعملها، ويُشكّل مع قطع أخرى عناصر حركتها. الأمر نفسه يُمكن تخيّله في الاقتصاد. فمن غير المألوف أن يعمل نظام رأسمالي من دون قطاع مصرفي. المصارف، وفق الوصف الذي يُعطيه لها فلاديمير لينين، هي صانعة النظام الرأسمالي الجديد. مجموعة من المصرفيين المحتكرين يُخضعون لإرادتهم جميع العمليات التجارية والصناعية، يُسيطرون على رأس المال النقدي ووسائل الإنتاج في أي بلد، ويُنظمون عمليات التوريد والبيع... إنّها القلب النابض للرأسمالية: لا يمكن فصل المصارف عنها، لا في مراحل التوسّع ولا في لحظات الانهيار. لا يوجد إيديولوجية أصلًا تُنادي بإلغاء المصارف نهائيًا، بل هناك من يدعو إلى تحويلها لخدمة الاحتياجات الجماعية، لا الربح الخاص. فكيف تمكّن لبنان، البلد الذي يعتمد نظامًا رأسماليًا، أي تُشكّل المصارف عمودًا رئيسيًا فيه، من الاستمرار بعد انهيار المصارف وعدم وضع حدّ لهذه الأزمة منذ ست سنوات؟
ما أثبته لبنان، ويمكن تعميمه على تجارب أخرى في العالم، أنّه حين ينهار النظام المصرفي، تتراجع الرأسمالية خطوة إلى الخلف، لتُعيد إنتاج نفسها عبر أدوات أخرى: الكاش، قنواتٍ غير رسمية، واقتصادٍ ريعيٍّ جديد. فالاقتصاد النقدي في لبنان ليس نقيضاً للرأسمالية، بل حيلتها للتغلّب على الأزمة التي تسبّبت بها، ولمنع قيام نظامٍ آخر أكثر عدالةً للسكان. حين يأتي وفد الخزانة الأميركية إلى بيروت لزيادة الضغوط على لبنان في ما خصّ ضبط الحركة المالية، إقفال جمعية القرض الحسن، فرض رقابة على كميات الذهب التي تُستورد وتُباع داخل لبنان وضرورة تكوين سجّل لمن يشتري ويبيع أكثر من كمية مُعينة، فرض رقابة على المحافظ الإلكترونية وصولًا إلى وقف العمل بها، فرض رقابة على كلّ حركة مالية، إقرار قانون الفجوة المالية، والترويج بأنّ اقتصاد النقد يُستخدم من قبل حزب الله لتمويل المقاومة، فهو عمليًا يدعو إلى إطلاق النار على رجلَي حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، وليس حزب الله.
تُريد الولايات المتحدة إعادة إنتاج المنظومة نفسها التي دمّرت المجتمع اللبناني، وفي الوقت نفسه إنهاء وجود حزب الله. فواشنطن تعتبر أنّه من غير الطبيعي وجود مقاومات وطنية أو قومية أو أممية تُدافع عن بلادها وحقوقها. تحاربها، ساعيةً إلى تفكيكها. وغالبًا ما تنجح في ترسيخ قناعة لدى جزء من العامة بأنّ ما يُصيب المجتمعات من تراجع في النمو، ضعف الخدمات العامة، الفقر، الأمراض، عدم التطوّر… هو نتيجة وجود هذه المقاومات أو اتّخاذ الحكومات خيارات معادية لما يُسمّى بـ«الشرعية الدولية». في لبنان، تُعتمد الاستراتيجية الدعائية ذاتها. المسؤولون الأميركيون يسوّقون جميعًا أنّ الشروط التي يطلبون تطبيقها هي بداية الفرج، وأنّه كما كان حزب الله سببًا في الأزمة اللبنانية، نهايته ونهاية مؤسساته ستكون سببًا لإعادة إطلاق الاقتصاد والنمو. لكن، إذا كانت واشنطن ترى في المقاومة سبب الخراب، فماذا عن النظام الذي انهار من داخله؟ ماذا عن الرأسمالية اللبنانية التي قدّمت نفسها على أنّها الضامن الوحيد للاستقرار والازدهار، فإذا بها تُسقِط المجتمع كلّه في فراغٍ مالي واقتصادي غير مسبوق؟
الخطاب الذي يختزل الأزمة في اقتصاد الكاش أو مصادر تمويل حزب الله يتجاهل عمدًا أنّه منذ العام 2019، توّقفت المصارف نهائيًا عن لعب أي دور حقيقي في الاقتصاد: غياب القروض، التوقّف عن دفع الفوائد، التضييق في فتح حسابات جديدة، التشدّد في فتح الاعتمادات للتجارة، التوقّف عن إصدار الشيكات… وبعد ست سنوات من الأزمة المتواصلة، تستمر المصارف من دون أي خطة إصلاحية أو رؤية لكيفية إنهاء هذه الأزمة. كلّ بنك يُطبّق على زبائنه السياسات التي تُلائم وضعه، من دون أي رقابة فعلية. أما قبل الأزمة، فقد تركّز شغل المصارف التجارية في لبنان على جني الأرباح الكبيرة جرّاء الفوائد التي كانت تحصل عليها من مصرف لبنان وسندات الدين. وخصّصت النسبة الأكبر من القروض التي تمنحها لسوق العقارات.
فهل تطرح الولايات المتحدة تصحيح هذا الوضع قبل قطع الخيارات البديلة التي اضطر السكان اللجوء إليها؟
أما إذا نظرنا إلى الكادر الأكبر، نكتشف أنّ النظام المالي العالمي هو نظام يعيش على حركة رؤوس أموال ضخمة لا تمرّ بالعمل ولا بالصناعة، بل تدور في فضاءٍ افتراضيٍّ من المضاربات والأسواق المالية، حيث يمكن أن تتضاعف الثروة في دقائق من دون أن يُنتَج شيئًا فعليًّا وتتحكّم بمصائر الشعوب. لبنان، مثل جميع بلدان الجنوب العالمي، مجرّد هامش في هذه الشبكة التي لا تُنتج شيئًا. والدعوة إلى الانضباط المالي ليست مشروع إنقاذ كما تُقدّم على الرغم من أهميتها وضرورتها لأي اقتصاد، بل عملية إعادة إخضاعٍ مقنّعة بلغة الإصلاح.
واشنطن لا تهتم بأن تعمل المصارف اللبنانية من أجل التنمية أو التوظيف أو الإنتاج، بل تريد إعادة دمج لبنان في النظام المالي الدولي الذي تسيطر عليه شبكات المصارف الكبرى، عبر ما يسمّى «نظام الالتزام المالي العالمي»، من أجل مراقبة حركة الأموال وضبط النقد. في المركز الشمالي، تُستخدم المصارف لتدوير الثروة والمضاربة. في الجنوب العالمي، تُستخدم المصارف لمراقبة الشعوب وضبط المال.
يوجد العديد من الخطوات الإصلاحية التي كان يجب أن تُنفّذها السلطة في لبنان، وأولها بناء نموذج عادل يخدم المجتمع. لم يحصل ذلك، لأنّ السلطات المتعاقبة غير مؤهلة لتنفيذ أفعال الوطنية. فتأتي القوى الخارجية المسيطرة أصلًا، لتملأ الفراغ، ليس عبر إصلاحات فعلية، بل خطوات تخدم المصالح الغربية. لذلك، ضخّ الأموال في المصارف من دون قيد أو شرط ورؤية لأيّ نظام مصرفي نُريد ونحتاج، ومن دون تطبيق إصلاحات مالية، يعني أننا سنظّل في ورطة عميقة لأنّ المشكلة مُتجذّرة في صلب النموذج المعتمد الذي لم تُعالَج اضطراباته الممتدّة منذ عقود، وليس في قناة تمويل حزب ليس الأكيد أن تنقطع حتى ولو أُغلقت كلّ مؤسساته.