الأرمن والانتخابات: شكوك حول بقاء الصوت المؤثر

الأرمن والانتخابات: شكوك حول بقاء الصوت المؤثر

مع اقتراب موعد الاستحقاق النيابي لعام 2026، يتّضح أنّ ما يدور في الكواليس السياسيّة يتجاوز بكثير مجرّد إعادة ترتيب أوراق انتخابيّة أو نسج تحالفات ظرفيّة. فخلف الخطاب العلني المليء بإشارات الاستعداد والتحالف، تتفكك بهدوء كتل، كانت تُعدّ حتى وقت قريب من الأكثر تماسكاً وتأثيراً في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. بعض هذه التحوّلات يجري بصمت، وبعضها الآخر تحجبه نسب الاقتراع المتدنيّة، غير أنّ نتائجها واحدة، انحسار أدوار كانت مفصلية في ترجيح الكفّة الوطنيّة.
 في هذا الإطار، يبرز المشهد الأرمني بوصفه نموذجًا صارخًا لانحسار النفوذ داخل النظام الطائفي نفسه. فهذا المكوّن، الذي لطالما امتلك مفاتيح دوائر انتخابيّة أساسيّة، يجد نفسه اليوم أمام سؤال جوهري: هل ما يشهده تراجع مرحليّ أم بداية خروج فعليّ من موقع التأثير؟ 

وسط هذا التساؤل، تشير التحالفات المستجدة إلى تراجع واضح في القدرة الأرمنية على أداء دور "بيضة القبان"، ولا سيما عبر حزب "الطاشناق"، الذي شكّل تاريخيًا العمود الفقري للقرار الانتخابي الأرمني.

لطالما مثّلت دائرة بيروت الأولى المركز التقليدي للثقل الأرمني، إذ تضمّ، وفق أرقام وزارة الداخلية الأخيرة، 36,793 ناخبًا أرمنيًّا أرثوذكسيًّا و7,288 ناخبًا أرمنيًّا كاثوليكيًّا، أي ما مجموعه 44,075 ناخبًا. غير أنّ انتخابات عام 2022 شكّلت نقطة تحوّل حاسمة، إذ لم تتجاوز نسبة الاقتراع 21 في المئة، مع مشاركة نحو 9,500 ناخب فقط. وقد انعكس هذا العزوف الواسع مباشرة على "الطاشناق"، الذي لم يتمكّن من حشد أكثر من خمسة آلاف صوت لمرشحيه، في تراجع غير مسبوق لدور كان يُعدّ أساسياً في رسم تحالفات العاصمة.

في المقابل، برزت شخصيات أرمنيّة من خارج الإطار الحزبي التقليدي، إذ نال جان طالوزيان 4,043 صوتاً، وحصد جهاد بقرادوني 2,186 صوتاً، فيما سجّلت بولا يعقوبيان رقماً لافتاً بلغ 34,245 صوتاً. ولم ينجح من مرشحي الطاشناق سوى نائب واحد هو أغوب ترزيان، ما كسر احتكار الحزب للتمثيل الأرمني في دائرة طالما وُصفت بـ"الخزان الأرمني".

ورغم هذا التراجع، تشير المعطيات إلى أنّ "الطاشناق" الحزب الأكثر تمثيلاً في الطائفة يتجه إلى الإبقاء على تحالفه مع "التيار الوطني الحرّ" في بيروت الأولى خلال انتخابات 2026، غير أنّ هذا الخيار يبدو أقرب إلى تحصيل حاصل انتخابي منه إلى تحالف قادر على استعادة النفوذ السابق.

أمّا في المتن الشمالي، إحدى أبرز الدوائر المسيحيّة، فبلغ عدد الناخبين الأرمن 32,077 ناخبًا أرمنيًّا كاثوليكيًّا وفق الأرقام الرسميّة الأخيرة، إلاّ أنّ نسبة الاقتراع في انتخابات 2022 لم تتجاوز 20 في المئة، مع مشاركة 6,580 ناخباً فقط. وقد فاز رئيس حزب "الطاشناق"، النائب أغوب بقرادونيان بـ4,973 صوتاً مستفيدًا من تحالفه مع النائب ميشال المر، غير أنّ الأرقام كشفت هشاشة هذا الفوز، إذ لو تمكّن المجتمع المدني من انتزاع مقعده الماروني لصالح المرشّح جاد غصن، لكان المقعد الأرمني انتقل إلى مرشح "القوات اللبنانية"، آرا بارداقجيان الذي لم ينل سوى 237 صوتًا.

وتعكس هذه المعادلة تراجع القدرة الأرمنيّة على فرض مرشحها بقوّتها الذاتيّة، وتحولها إلى عنصر تابع لمسار التحالفات الكبرى. واليوم، تتوزع خيارات "الطاشناق" في المتن بين الانضمام إلى آل المر في حال تمكّن الأخير من تكوين لائحة خاصة به ولم يلجأ إلى التحالف مع لائحة "التيار"، أو الالتحاق بلائحة النائبين ابراهيم كنعان والياس بو صعب، في ظل غياب أي مؤشر جدّي يرشح لتجديد التحالف مع "التيار الوطني الحر" في هذه الدائرة تحديدًا، على الرغم من مشاركة بقرادونيان في الاحتفال الأخير الذي أقامه رئيس التيار، النائب جبران باسيل، في ضبية، وهي مشاركة لا تعكس بالضرورة طبيعة التحالفات المقبلة.

وفيما تُظهر المعطيات في المتن تراجع القدرة الأرمنية، تبدو دائرة زحلة مثالًا آخر على الحاجة إلى تحالفات واسعة لضمان التمثيل، ففي هذه الدائرة لم يتجاوز عدد الناخبين الأرمن 3,297 ناخبًا، بنسبة اقتراع تقارب 24 في المئة، أما المقعد الأرمني الأرثوذكسي، المضاف منذ عام 1992، فيُحسم في الغالب بفعل التحالفات السياسيّة لا بفعل حجم الكتلة الناخبة. ففي انتخابات 2022، فاز مرشح "الطاشناق" ووزير الصناعة السابق جورج بوشكيان بـ2,562 صوتاً، بدعم من تحالف ضم "التيار الوطني الحر" و"الثنائي الشيعي".

غير أنّ هذه الأرقام تؤكد أنّ الحضور الأرمني في زحلة لا يشكّل عاملاً مقرراً في ميزان القوى، إنّما يقترب من تمثيل رمزي يحتاج دائمًا إلى مظلة سياسيّة أوسع لضمان الحد الأدنى من الاستمراريّة النيابيّة.

وتشير مصادر أرمنيّة متابعة للملف الانتخابي إلى أنّ الأرمن، سواء المنضوون في حزب "الطاشناق" أو في أحزاب أخرى "كالهنتشاك" و"الرامغافار"، دأبوا تاريخياً على الاصطفاف إلى جانب موقع رئاسة الجمهورية، انطلاقاً من اعتبارهم أنفسهم أقلية ترى في رئيس الجمهورية ضمانة سياسيّة لها. إلا أنّ المشهد هذه المرّة قد يبدو مختلفاً، في ظل قانون انتخابي صارم، ما يدفع "الطاشناق"، بوصفه الحزب الأكثر تمثيلاً داخل الطائفة، إلى التحالف مع مكونات سياسيّة قادرة على إيصال مرشحيه إلى البرلمان.

استناداً إلى هذه المعطيات، لا يبدو أنّ المشهد الأرمني في انتخابات 2026 مرشّح لانقلاب نوعي، فالأرمن لم يعودوا كتلة ناخبة قادرة على ترجيح الكفّة في بيروت الأولى أو المتن الشمالي، ولا يملكون في زحلة سوى هامش محدود للمناورة. كما أنّ "الطاشناق" فقد موقعه كمرجعية وحيدة، في ظل بروز شخصيات أرمنية مستقلة أو منفتحة على تحالفات تتجاوز الانقسامات التقليدية.

في المحصلة، تكشف قراءة الأرقام والتحالفات أنّ "العصر الذهبي" للدور الأرمني في السياسة الانتخابيّة اللبنانيّة في خطر، فبعدما كانوا يتحكّمون بمفاتيح دوائر أساسيّة ويملكون قدرة التعطيل أو الترجيح، بات همّهم اليوم البحث عن مقعد مضمون ضمن تحالف واسع، لا عن موقع مقرِّر في المعادلة الوطنية، وبالتالي مع اقتراب استحقاق 2026، تدخل الكتلة الأرمنيّة مرحلة سياسيّة جديدة عنوانها الواقعيّة الانتخابية بدل النفوذ الحاسم.

اقرأ المزيد من كتابات كارين القسيس