حلّ الميليشيا بين تخوّف "حزب الله" وتجربة "القوات اللبنانيّة"

قافلة عسكرية للقوات اللبنانية تخرج من بيروت عام 1990
تُشبه الأجواء المحيطة بالجدل حول نزع السلاح غير الشرعي في لبنان هذه الأيام، تلك التي رافقت مرحلة تطبيق البند التنفيذي الأول من وثيقة الوفاق الوطني - اتفاق الطائف قبل 35 عامًا.
يستذكر من تابعوا تفاصيل تلك الحقبة الحرجة أن الحزب التقدمي الاشتراكي نفّذ التزاماته بيُسر، فأعاد أسلحة ميليشيا "جيش التحرير الشعبي" التابعة له، الثقيلة والمتوسطة، إلى الجيش السوري. كانت هذه الميليشيا بحجم لواء. في المقابل، طبّقت حركة "أمل" القرار جزئيًا، مبررة موقفها بأنها جزء من "المقاومة الإسلامية" تحت مظلة "حزب الله"، الذي أُلحق به تدريجيًا جهازها العسكري والأمني تنظيميًا وقياديًا. وحرص نظام الوصاية السوري على تعزيز "حزب الله" بالأسلحة، الذخائر، والخبرات العسكرية الإيرانية، بحجة ضرورة تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، مع تشديده على حصر حق حمل السلاح لأغراض "المقاومة" في "الحزب" وحده، بعد القضاء على "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية - جمول" منتصف الثمانينيات من خلال سلسلة عمليات أمنية.
كانت هذه الميليشيات الثلاث - الحزب التقدمي الاشتراكي، حركة "أمل"، و"حزب الله" - الأبرز ضمن ما عُرف بالطرف "الإسلامي والوطني"، بينما كانت بقية التنظيمات المسلحة ثانوية. في المقابل، وقّعت "القوات اللبنانية"، في عهد قيادة إيلي حبيقة (الوزير السابق لاحقًا) عام 1985، ما عُرف بـ"الاتفاق الثلاثي" مع الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة "أمل"، تحت عنوان إنهاء الحرب الأهلية وتقاسم السلطات والمواقع في الدولة اللبنانية، تحت ضغط عسكري سوري كبير على المناطق "الشرقية"، وبإشراف سياسي مباشر من نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام. لكن هذا الاتفاق لم يستمر، إذ أسقطته "القوات اللبنانية" عسكريًا بقيادة الدكتور سمير جعجع، بالتحالف مع رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل.
استمرت الحرب الأهلية حتى بدء تطبيق اتفاق الطائف. واستغل النظام السوري انشغال الأنظار الدولية والإقليمية بتحرير الكويت من جيش الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، لينال موافقة ضمنية من العواصم الدولية على تطبيق الطائف وفق رؤيته، مما مكّنه من إدارة الدولة اللبنانية الممزقة حسب مصالحه. واخترع تفسيرًا لبند "تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي" الوارد في الاتفاق لتبرير احتفاظ "حزب الله" بسلاحه، مستثنيًا إياه من قرار حل الميليشيات المتفق عليه دوليًا وإقليميًا ولبنانيًا. لاحقًا، أصبح مجرد التلفظ بـ"اتفاق الطائف" يعرّض صاحبه لخطر القتل، إذ كان يُفهم أنه يطالب بانسحاب الجيش السوري بعد انتهاء مهلة السنتين المنصوص عليها، وحل جميع الميليشيات، بما فيها "حزب الله".
عامًا على الطائف: لماذا لا يزال لبنان يراوح مكانه؟
البند المذكور في اتفاق الطائف نص بوضوح على اعتماد الأساليب السياسية والدبلوماسية، والالتزام بالتعهدات الدولية، وعلى رأسها اتفاقية الهدنة، لبسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها من أجل تحريرها. ولم ينص البتة على استثناء أي حزب أو تنظيم من حل الميليشيات أو منحه حق "المقاومة" بمفرده.
لا يزال لبنان يراوح مكانه منذ ذلك الحين. وما أشبه اليوم بالأمس عند قراءة مضمون هذا البند من اتفاق الطائف:
"استعادة سلطة الدولة حتى الحدود اللبنانية المعترف بها دوليًا تتطلب الآتي:
أ- العمل على تنفيذ القرار 425 وسائر قرارات مجلس الأمن الدولي القاضية بإزالة الاحتلال الإسرائيلي إزالة شاملة.
ب- التمسك باتفاقية الهدنة الموقعة في 23 آذار 1949.
ج- اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي، وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها، ونشر الجيش اللبناني في منطقة الحدود اللبنانية المعترف بها دوليًا، والعمل على تدعيم وجود قوات الطوارئ الدولية في الجنوب اللبناني، لتأمين الانسحاب الإسرائيلي ولإتاحة الفرصة لعودة الأمن والاستقرار إلى منطقة الحدود."
يُجمع معظم اللبنانيين، باستثناء بيئة "حزب الله" ، على أن حروب لبنان وأعمال العنف فيه كانت ستنتهي فعليًا قبل 35 عامًا لولا استثناء "حزب الله" من تطبيق اتفاق الطائف. جيل كامل دفع أثمانًا باهظة لهذا الاستثناء من حياة أفراده، ممتلكاتهم، ومستقبلهم حتى اليوم.
لكن قادة "حزب الله" لهم رأي مخالف: "هل تريدون أن يحلّ بنا ما حلّ بـ'القوات اللبنانية' بعد تخليها عن سلاحها؟"
السؤال وجيه، لكنه يفتقر إلى المنطق. لبنان اليوم ليس لبنان ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، ولا أحد داخل الدولة أو خارجها يرغب في العودة إلى الحرب، لا مع "حزب الله" ولا مع غيره. في هذا السياق، يبقى الكلام المنسوب إلى قائد الجيش العماد رودولف هيكل، رغم نفيه رسميًا، محط تأمل، لأنه يعكس واقع الحال. بعد تخلي "القوات اللبنانية" عن سلاحها، عاد الجيش السوري لممارسة دور جيش احتلال دون رقابة دولية أو عربية، وتحوّل اتفاق الطائف إلى "طائف سوري". اليوم، لا يوجد في لبنان سوى الجيش اللبناني، الذي يحظى بثقة جميع أبناء الوطن ودعمهم، باستثناء "حزب الله". هذا الجيش يمثل الجميع، ولا يتحرك إلا بقرارات الدولة التي يشارك فيها الجميع وتعمل لمصلحتهم.
القوات اللبنانية": من السلاح إلى السياسة
لم يكن الوضع كذلك بالنسبة إلى "القوات اللبنانية" عام 1991. ورغم ذلك، تخلت عن سلاحها وتحولت إلى العمل السياسي بناءً على تقدير الظروف الوطنية، الإقليمية، والدولية، وموازين القوى. صحيح أنها دفعت ثمنًا باهظًا، إذ اضطُهدت، وحوكم قائدها سمير جعجع وسُجن لأكثر من 11 عامًا، وهو الوحيد من بين قادة الحرب الذين سُجنوا، لكن ذلك حدث في زمن "اللادولة" حيث غابت العدالة والحريات، تحت سيطرة دولة أخرى ضربت بسيفها الشعب اللبناني. ومع انتهاء الوصاية السورية، وبدء عودة الدولة إلى أبنائها، خرج جعجع من السجن، واستفادت "القوات" من نظام الحريات والديمقراطية، حيث نمت كتلتها النيابية من 5 نواب إلى 20 نائبًا خلال عقدين، مع توقعات بزيادة في انتخابات 2026، ما لم تتأخر سنة أو سنتين بسبب التطورات.
كان بإمكان "القوات" رفض حل ميليشياتها، ولم يكن بمقدور أحد إخراجها من بيروت وضواحيها إلا بتدميرها مع سكانها. كانت هناك مؤشرات كثيرة تدعو إلى الريبة من نوايا السلطة تجاه "القوات" والمسيحيين المناهضين للنظام السوري، وهي سلطة شكّلها الحاكم في دمشق قبيل انتهاء الحرب، منذ اغتيال الرئيس رينِه معوض. لا يزال مشهد الأرتال العسكرية التي امتدت من الأشرفية إلى نهر الكلب في 11 تشرين الثاني 1990، لتنضم إلى ثكن "القوات" ومخازنها في كسروان، جبيل، والبترون، محفورًا في الذاكرة. لم تكن "القوات" أقل شأنًا من "حزب الله" عسكريًا، إذ كانت تضم حوالي 20 ألف مقاتل وإداري يتقاضون رواتب شهرية، ووفّرت بيئة صمود أمني واجتماعي وصحي، وامتلكت أجهزة إعلام قوية، وقدرة على توجيه ألف قذيفة وصاروخ إلى أي نقطة في لبنان.
القائد وتأثيره على قرارات الميليشيات
ربحت "القوات" رهانها اليوم - من كان يتوقع ذلك؟ - لكن التجرد يقتضي الاعتراف بأن شخصية قائد الميليشيا، أي ميليشيا، لها تأثير كبير. لو بقي بشير الجميل حيًا، لما وقعت، على الأرجح، "حرب الجبل". كان قادرًا بكلمة واحدة على إعادة "القوات" إلى بيروت، أو التفاهم مع وليد جنبلاط. ولو كان قائد "القوات" وقت حل الميليشيات غير سمير جعجع، لما استطاع اتخاذ قرار بهذا الحجم وتنفيذه. ولو كان السيد حسن نصرالله لا يزال على قيد الحياة، لكان اتخاذ قرار في هذه المرحلة العصيبة أسهل على "حزب الله". القائد يقدّر الظروف ويصدر الأوامر، فيطيعه جمهوره. كان رهان سمير جعجع أن تبقى جذوة الإيمان بالقضية التي حملتها "القوات" حية، سواء عند قبول حل الميليشيا أو عندما فضّل السجن على قبول منصب وزاري. في كل الأحوال، لم تتخل عنه "النواة الصلبة" التي أعاد البناء عليها بعد خروجه إلى الحرية.
الحزبية في لبنان انتماء إلى قائد معبود، وهذه طبيعة اللبنانيين، للأسف أو لحسن الحظ، ليس هذا محل النقاش. في "حزب الله"، يرى البعض أن التخلي عن السلاح إعلان هزيمة واستسلام لا يقبلونه. هؤلاء يفضلون أن يدمرهم الجيش الإسرائيلي ليقولوا: "إنها الحرب، كر وفر، يوم لك ويوم عليك". المطلوب في حسبانهم الصمود.