"عندما يلتقي الرجال على رأي واحد، تطول آذانهم"

كان الزملاء في "النهار" كأنهم ينتظرون وصولي إلى الجريدة ، ليلوّحوا لي بالعدد الصادر ذلك اليوم ويقولوا مازحين: "صحيح أنكم تقتلون القتيل وتمشون في جنازته!" فأجبت مستغرباً: "مَن تقصدون بـ'أنتم'، وأنا وحدي أمامكم وفي حياتي لم أقتل عصفوراً؟". أدركت المَقلب عندما فتحت الجريدة ورأيت صورة كبيرة، خمسة أعمدة، على صفحة داخلية، وتحتها خبر رئيسي عن مسيرة شموع في ذكرى ضحايا صبرا وشاتيلا، وفي مقدم المسيرة جنابي، حاملاً شمعة إلى جانب الياس خوري، وسمير قصير، وجيزيل خوري.

فهمت المغزى من اختيار تلك الصورة وتكبيرها عند تركيب الصفحة، فقد كنتُ مع عملي التحريري في "النهار" مدير تحرير مجلة "المسيرة" الناطقة باسم "القوات اللبنانية". ولكن لم أشعر بحَرَج. أذكر قولي للزملاء إنني ضد قتل المدنيّين الأبرياء في المطلق، سواء أفي لبنان أم في كوسوفو أم الكونغو. مجزرة صبرا وشاتيلا طاولت المدنيين، مثل الدامور وغيرها من مدن لبنان وقراه. والحرب انتهت منذ سنوات (لم تكن بعيدة). صارت وراءنا، ولكن هناك مَن لا يزالون حتى اليوم عالقين ذهنياً خلف المتاريس، ويريدون البقاء فيها. ثم لماذا لا نستنكر سوى قتل "مدنيّينا" نحن؟ أليس المدنيّون الآخرون، من أي جهة كانوا، بشراً وأبرياء أيضاً؟

تعود معرفتي بهيام القصيفي إلى تلك الأيام، منتصف التسعينيات، وستقوم بيننا، بعد ذلك، علاقة زمالة أمتَن وصداقة، لم يُغيّر فيها شيئًا انتقال هيام إلى "الأخبار" وبقائي في "النهار"، وصولاً إلى التقائنا في "كافِيين دوت برس"، مع الزميلتين كلوديت سركيس ولِيا القزّي.  

أمّا الياس خوري فتعرّفت إليه من خلال رواياته قبل أن أتعرف إليه، وأحبه رغم اختلاف توجهاتنا السياسية، فلطالما كانت الأولوية عنده لقضية فلسطين، أو هكذا خُيّل إليّ، بينما نشأتُ على تقديس لبنان كما رسَمه الأخوان الرحباني وغنّته فيروز. وأومن، ولا أزال، بأن الحريّة هي مبرّر وجود بلادنا ومعناها، وأن لكل إنسان الحق في رأيه وفكره، ما دام لا يزعج الآخرين أو يعتدي على حريتهم. اعتبرت نفسي محظوظًا عندما شاركت الياس مكتبه في الأسابيع الأولى من عملي في الجريدة، وعندما دعاني مع سمير وجيزيل للانضمام إلى مسيرة الشموع، لم أتردد. وأنسي الحاج استقبلني لاحقاً بابتسامة عريضة، مُعلّقاً: "كَم أنتَ بريء!"

أذكرهم اليوم في مقالتي الأولى على موقع  "كافيين دوت برس"، ربما لأن سنة مضت تقريباً على رحيل آخرهم الياس خوري، الذكي الشغوف اللمّاع، الذي أشتاق إلى حوار معه. وأتطلع أيضاً إلى حضور عرض شخصيات من رواياته في مبنى "زيكو هاوس"، سبيرز،  من 2 أيلول إلى 30 منه. وما أجمل اختيار عنوان "كأنه نائم" للتحية الفنية - الأدبية إلى الياس خوري، باقتباس من روايته "كأنها نائمة". كلمتان رددتهما في نفسي قبل أن يكتبهما بسنوات، خلال الحرب التي أطلق عليها الإسرائيليون اسم "عناقيد الغضب" عام 1996. حينها، تجمّدت عيناي على صورة لوكالة "فرانس برس"، من الصرفند، وصلت إلى يديّ في الجريدة لطفلة جميلة قُتلت مع أهلها بالقصف، ملقية برأسها وشعرها الطويل على نافذة السيارة التي كانت تقلّهم، كأنها نائمة. تأمّلت الصورة لا أعرف كم من الوقت، وأصبت بكآبة منعتني أياماً من الكلام.

ولأنني ضد قتل المدنيّين أياً كانوا، كتبت مقالة يوم هجوم "حماس" على مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر 2023، أستنكر فيها المجزرة وأعبر عن خشية هائلة على مدنيي القطاع الذين سيدفعون ثمناً مُرعِبًا. لكنني فوجئت باعتذار جميع أصدقائي وزملائي في الصحف والمواقع عن عدم نشرها، لأن العالم العربي والإسلامي كان يعيش حالة نشوة عارمة (فالضحايا المدنيون ذلك اليوم المشؤوم كانوا يهوداً). وبالطبع، تَلَت تلك العملية مجازر في المدنيّين الفلسطينيين تفوق قدرة القلب على التحمّل، والعقل على الوصف والاستيعاب. لكن، كما قالوا، "دَع أمر الغد للغد".

أروي هذا لأقول إن الناس أصبحوا مصفّحين ومدرّعين عاطفيًّا وشعوريًّا تجاه الجرائم الجماعية. مَن يتذكر عدد ضحايا غزة الذي يرتفع يومياً؟ 50-60-70 ألفاً؟ ولأقول أيضاً إن زمناً سيأتي تنتصر فيه الضحايا على قاتليها. دم الثأر يستسقي دم الثأر، والعنف لا يولّد إلا الإرهاب والكراهية.

أدرك وأنا أكتب هذه الكلمات أنها تبدو خارجة عن سياق تفكير كثيرين وإيمانهم. لكنني أحفظ مَثَلاً سمعتُه مرة في مقابلة مع الكاتب الفرنسي البلجيكي إريك-إيمانويل شميت: "عندما يلتقي الرجال على رأي واحد وكلام واحد، تطول آذانهم.

اقرأ المزيد من كتابات ايلي الحاج