البابا والسلام في لبنان : التحدي الشائك
البابا لاون يلقي كلمته في قصر بعبدا( موقع الفاتيكان)
ان يحلّ البابا لاون الرابع عشر في لبنان، بعيدًا عن الاحتفاليات الاجتماعية، والفولكلورية التي لا تليق بالمناسبة، وعروض الليزر التي جعلت البابا ينتظر في سيارته، فلا شك انه حدث مميّز للبنان. رغم كل الظروف المعروفة التي أملت هذه الزيارة، ورغم كل الشوائب والسيئات الكثيرة التي ظهرت امس وكأن الزيارة ليست زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية، والتي اصرّ مسؤولون عن الترتيبات نفي الخلافات حولها، الا ان وجود البابا في ظرف استثنائي يمرّ به لبنان، يشكلّ محطة يفترض التعامل معها بجديّة، لا تشبه حتى الان تعامل لبنان الرسمي، والكنسي، مع الحدث.
حين حلّ البابا يوحنا بولس الثاني كانت ظروف لبنان مختلفة تمامًا، لكنها تتشابه مع الظروف الحالية لجهة الخطر الوجوديّ الذي يحيط به. في الايام الاخيرة، اندفعت شرائح شعبية للحصول على حق المشاركة في الفاعليّات، ومنها القداس، نظرا الى الحفاوة الاعلامية التي رافقت الزيارة وساهم فيها بعض الاعلام التلفزيوني الذي حوّل المناسبة حدثّا اعلاميّا فترك اثره في بعض المجتمعات الملتزمة كنسيّا والتي لم تحصل على بطاقات " الدعوات الخاصة" بل اصرت على المشاركة ولو بلا بطاقات. هذا تماما ما لم يحصل في الزيارة الاولى. فالذين اندفعوا حينها الى المشاركة من كل المناطق، كانوا شريحتين. الاولى المنتمون الى الكنيسة، والذين رأوا حينها في الزيارة الاولى في شكل عام، وليس كزيارة بولس السادس، لرئيس الكنيسة الكاثوليكية حدثًا قد لا يتكرر. كان يوحنا بولس الثاني بذاته شخصية خارجة عن المألوف، والمسيحيّون في لبنان تعرفوا عليه تباعًا، عبر المؤسسات الكنسية والمؤلفات عنه وأولها كان " "الآتي من زمن بعيد" للخوري الراحل نبيل الحاج، ومن ثم دوره في بولندا وما كان له من تأثير مباشر في سقوط الاتحاد السوفياتي. وكانت علاقته بالبطريرك الراحل مارنصرالله بطرس صفير، علاقة خاصة، كرّست الموقعين مدافعين عن لبنان وحريته وسيادته. وكان استقباله وهتافات المحتشدين له، ومع صفير مرافقًا له في سيارته الخاصة، علامة تمسك بخطاب الاثنين معًا.
الشريحة الثانية التي ملأت الشوارع كانت الشريحة الشبابية المضطهدة بفعل الوجود السوري والنظام الامني، في عهد الرئيس الياس الهراوي.نزل القوّاتيون والعونيّون والكتائبيّون الى الشارع، واستفاد هؤلاء من المناسبة، ولا سيما في لقاء الشبيبة من اجل رفع صوتهم والمطالبة بالحرية، وعبر هتافات وصور وشعارات رفعت عند مرور موكب البابا. وكان الاهتمام بالارشاد الرسولي عنوانًا اساسيًّا في تعامل هذه الفئة، مع الحدث البابوي، من زاوية حرص البابا على الدفاع عن حرية لبنان.
اليوم تختلف الزيارة باختلاف الشخصيتين البابويّتين، وباختلاف المناسبة، لكن العنصر المشترك، هو نوع الخطر الذي يحدق بلبنان. فالخطر قائم وبجديّة، يعرفها البابا، وتعرفها السلطات الرسمية التي احتشدت للقائه. لكن الفارق ان هناك من يدرك الخطر، ويحمل معه الى لبنان عنوان السلام، وان هناك في المقابل من يتعامل بخفّة مع كل الرسائل التي تصل وتحمل انذارات تتوالى حدّتها ، ويتعامل مع الزيارة على انها حفلة اجتماعية.
طبيعة البابا الذي كشف عن بعض عناوين توجهه السياسي الخارجي، في كلماته في تركيا، سواء بالنسبة الى الاخطار المحدقة بالمنطقة، او العلاقة مع الكنائس الاخرى، ومع المسلمين في منطقة شهدت نزاعات طائفية وسياسية، تعطي لزيارة لبنان معان على اكثر من مستوى.
المستوى السياسي العام، الذي يحاول الفاتيكان من خلاله ان يكثّف اتصالاته لتحييد لبنان عن الصراعات الاقليمية، ويجنّبه مخاطر الحرب. ودوره هنا على اهميته لا يزال حتى الان مقيّدا نتيجة الدور الاميركي الضاغط في اتجاه وضع خريطة المنطقة. علمأ ان حبرية سلفه فرنسيس تميزت بعلاقة وثيقة مع الادارة الديموقراطية ومع الرئيس جو بايدن بذاته، اذ لعبت كاثوليكية الاخير دورًا في تأثير الفاتيكان بملفات اساسية ومنها لبنان.
لكن ذلك لا يمنع البابا لاون من محاولة احداث خرق اساسي. وقد بدا جهده واضحًا خلال الاشهر الاخيرة من خلال عمل السفير البابوي باولو بورجيا في لبنان ازاء الوضع الجنوبي ومحاولته التخفيف مما يتعرض له ابناؤه.
المستوى المسيحي، وهذا يعني في صورة اساسية الكنائس المنتمية الى الكرسي الرسولي. كل التغطية الكنسية ومحاولات الابهار لا تخفي المحاذير الكنسية من توجه الفاتيكان الذي لديه ملاحظات لا تنتهي على اداء الكنائس على اختلافها والرهبانيات كنسيًّا وسياسيّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا. كل ما هو موجود في ادراج الفاتيكان من شكاوى ومن ملفات عالقة، ليس الوقت المناسب لفتحها اليوم، خلال الزيارة لكنها ستكون جرس انذار لمن له "آذنان سامعتان". وعلى اي حال فان المظاهر الشكلية الاولى للقائه في المطار مع الاكليروس اكثر من معبّرة، لانها كانت تفتقد الى الحرارة التي كانت متوخاة.
المستوى الثالث العلاقة مع المسلمين. منذ الارشاد الرسولي تحولت تجربة العيش المشترك في لبنان ، رغم كل ما مرّت به من تحديّات، مثلًا يُحتذى في المنطقة. وانطلاقًا من اللقاء الروحي الذي سيعقد في بيروت، يحرص الفاتيكان على تكريس وجهته في تمتين هذه الروابط، وتحويلها متينة وعدم الاكتفاء بمناسبات وشعارات تتردد من حين الى آخر.
الا ان التعويل الاهم يكمن في ان تساهم زيارة البابا، الذي كانت زوجة العاهل الاردني رانيا العبدالله حذرته من مخاطرها، في انقاذ لبنان من الخطر الداهم، وان يكون شعار السلام الذي رفعه في لبنان اشارة ايجابية.