طرق لبنان تغرق....بين بريق التجميل وواقع الإهمال

طرق لبنان تغرق....بين بريق التجميل وواقع الإهمال

المياه التي غمرت وزارة العمل ( اليازا)

في مشهد متكرر يحولّه المسؤولون إلى "روتين شتوي"، عاشت بيروت والعديد من المناطق اللبنانية الاسبوع الماضي، يومًا من الفوضى مع هطول الأمطار الأولى. تحولت الطرق إلى أنهار جارفة، علقت السيارات في المياه المتجمعة، وتعطلت حركة المرور في شكل شبه كامل، جاء هذا المشهد بعد أسابيع فقط من حملة تزفيت مكثفة للطرقات استعدادًا لزيارة البابا لاون الرابع عشر إلى لبنان، مما يطرح تساؤلات كبيرة عن جدوى هذه الحملات وجذور المشكلة الحقيقية.

شهدت الطرق الرئيسية في بيروت شللًا شبه كامل لحركة المرور نتيجة تجمّع المياه بكميات هائلة. وقد وصلت الفيضانات إلى حد إغراق نفق الأوزاعي على طريق المطار بالكامل، ما أدى إلى توقف حركة السير في الاتجاهين لمسافات طويلة. كما غمرت المياه منطقة خلدة وتحول الأوتوستراد إلى ما يشبه بركة كبيرة، وتكرر المشهد نفسه في منطقة الجناح حيث أدت السيول إلى توقف شبه تام لحركة السير.

وهذا المشهد مرجح لان يتكرّر كما يحصل في كل فصل شتاء.

مصدر في وزارة الأشغال العامة والنقل كشف لـ"كافيين دوت برس"، عن خلل هيكلي رئيسي يساهم في تفاقم مشكلة تجمّع المياه مع كل موجة أمطار تضرب لبنان. واوضح أن "المشكلة الأساسية تكمن في افتقاد التنسيق العملي والتخطيط المتكامل بين الجهات التنفيذية". فمن ناحية، يشهد الميدان مشكلة منهجية تتمثل في اختلاط مياه الصرف الصحي بشبكات تصريف المتساقطات المطريّة، وهو ما يؤدي إلى إرباك الشبكة وإثقالها بكميّات هائلة من المياه لم تُصمم لاستيعابها، مما يعطّل عملها بالكامل ويتسبّب بالفيضانات، ما يدلّ على خلل جذريّ في التصميم الأساسيّ.

من ناحية أخرى، يعمل كل من وزارة الأشغال ومجلس الإنماء والإعمار غالبًا ضمن أطر منفصلة، بحسب المصدر، حيث تقوم الوزارة أحيانًا بمشاريع لتحسين تصريف مياه الأمطار في شكل منفرد، بينما ينفّذ المجلس مشاريع الطرق أو الصرف الصحي الكبرى بمعزل عن الجهود الأخرى. هذا الانفصام المؤسساتي ينتج مشاريع متناثرة غير متجانسة، ويكشف أن التكامل بين المشاريع غالباً ما يكون مجرد "رد فعل" على كارثة بعد وقوعها، وليس جزءًا أصيلاً من التصميم الأوليّ والتخطيط الاستباقيّ المشترك.

الجذور الحقيقية: بنية تحتية هشة

وراء هذه التبريرات، تكمن أزمة بنية تحتية هشة تتفاقم سنوياً دون حلول جذرية. فالمشهد اللبناني "لم يعد صادماً بقدر ما أصبح جزءاً من روتين البؤس اللبناني، إذ غرقت الشوارع مع أول "شتوة حرزانة"، في ظل دولة تبدو بلا خطط وبلا مؤسسات قادرة على القيام بأبسط واجباتها".

من جهته، دافع رئيس إدارة الشؤون الإدارية في مجلس الإنماء والإعمار المهندس إيلي الحلو لـ"" كافيين دوت برس"، عن أداء المجلس مؤكداً أن المشاريع تتم دراستها وتنفيذها على أساس إرشادات التصميم (Design Guidelines) الموضوعة من قبل الرابطة الأميركية لمسؤولي الطرق والنقل (AASHTO)"، وهي من أعلى المعايير العالمية.

 وأشار الحلو إلى أن التنفيذ يمر بمراحل دقيقة من الفحوصات الجيوتقنية للتربة قبل الإنشاء، وتتوالى عليها فحوصات الجودة في مراحل التبليط والتزفيت، مع مراعاة طبيعة هطول الأمطار بغزارة عبر تصميم ما يعرف بـ "الطرق المقاومة للتغيرات المناخية" (Climate resilient roads) وخلص إلى مقولة حاسمة: "إن مجلس الإنماء والإعمار لا يستعجل التنفيذ مقابل التضحية بالجودة".

وعمّا اذا كان هناك خطة لمجلس الانماء الجديد بهيئته، قال انه يتم تجهيز ودراسة الخطة وبعدها سيتمّ التنسيق مع المعنيين.

كشف الثغرات المؤسساتية

 في المقابل، قدّم رئيس لجنة الأشغال النيابية النائب سجيع عطية رواية مختلفة تكشف الخلل الهيكلي في النظام، مشيراً إلى ثلاث ثغرات مؤسساتية، اذ أكد أن لا تنسيق بين لجنة الأشغال، ومجلس الإنماء والإعمار، ووزارة الأشغال العامة لضمان التكامل بين أعمال التزفيت وشبكات تصريف المياه. هذا الغياب التام للتكامل يفسّر سبب تحول الطرق الجديدة إلى برك مائية فور هطول المطر.

وأشار لـ"كافيين دوت برس"  إلى أن الإشراف والرقابة على العمل ضعيف جداً بسبب نقص الكادر البشري المتخصص في الوزارة، ما يترك جودة التنفيذ تحت رحمة المقاولين دون تدقيق فعال.

وأعلن عطية، أن "لا يوجد خطة للصيانة لأن الموازنة تتغير سنوياً". هذا يعني أن أي استثمار بملايين الدولارات هو في الحقيقة إصلاح مؤقت ومحكوم بالفشل منذ البداية.

"الطريق بلا أب"

مجلس الإنماء والإعمار الجديد بهيئته الجديدة، أمام امتحان مصداقية غير مسبوق. التحدي ليس مجرد إصلاح طرق أو سد حفر، بل هو اختبارٌ حقيقيٌّ لإرادة الإصلاح في مواجهة عقود من الإهمال والتسييس والتشرذم المؤسساتيّ. النجاح لا يُقاس بحملات التزفيت الموسمية، بل بقدرة المجلس على كسر دائرة "الإصلاحات التجميلية" والانتقال من منطق "الترقيع" العاجل إلى تبني رؤية استراتيجية متكاملة.

في جوهر هذا المشهد، يتضح أن انعدام التنسيق بين الجهات المسؤولة عن الطرق وبين الجهات المسؤولة عن شبكات تصريف المياه هو العلّة التي تدمّر الطرق الحديثة. لا يمكن معالجة مشكلة بنية تحتيّة معقدة عبر إصلاح جزء واحد (التزفيت) بمعزل عن الجزء الأكثر أهمية (التصريف)، ما يفسّر تحوّل الطرق المعبّدة إلى أحواض مائية تستنزف الإسفلت.

والحل لا يكمن في المزيد من التزفيت العشوائيّ أو حملات التجميل الموقتة، بل في إصلاح الخلل الهيكلي في الحوكمة، وإقرار الشفافية والمساءلة في إنفاق المال العام، وتبني رؤية متكاملة تضع صمود البنى التحتيّة في مواجهة التغيّرات المناخية على رأس الأولويات. فالاستثمار في البنى التحتية ليس مجرد شعارات، بل هو استثمار في استقرار البلاد وازدهارها، ولا يمكن تحقيق ذلك دون مساءلة مؤسساتيّة فاعلة تكفل إنهاء الحلقة المفرغة من الإصلاح ثم الانهيار.