تبييض أموال وفساد واستغلال سلطة… هل يمثل ميقاتي أمام القضاء الفرنسي؟

رئيس الحكومة اللبنانية السابق، نجيب ميقاتي مُشتبه بارتكابه جرم تبييض أموال مشدد في فرنسا، نتيجة استغلال النفوذ السياسي، إساءة استعمال السلطة، تضارب المصالح، الفساد، وتبييض الأموال في لبنان. هكذا قرّرت النيابة العامة المالية في فرنسا، التي فتحت تحقيقاً أولياً في التُهم المُشتبه بأن يكون ميقاتي، وأفرادٍ من عائلته، قد ارتكبوها. التحقيق هو نتيجة مسار بدأ قبل أربع سنوات، قاده فريق لبناني - فرنسي مُشترك يتضمّن محامين وخبراء قانونيين وجمعيات مكافحة الفساد.
تُفيد معلومات «كافيين دوت برس» أنّ التحقيق في هذا النوع من الجرائم يرتكز إلى البحث التاريخي في كيفية تراكم ثروة آل ميقاتي، وصولاً إلى الأصول التي تملّكوها في فرنسا.
وقد بدأت قصة آل ميقاتي من العام 1984، حين أسّس الاخوان ميقاتي شركة مُتخصّصة في بيع المعدّات الإلكتروني في طرابلس. يُعتبر هذا التاريخ مفصلياً في الملفّ، لأنّ الشقيقين انطلقا من هذه الشركة لإنشاء أول بنية تحتية للهاتف الخليوي في لبنان (من دون ترخيص حكومي)، إلى ان بدأ عهد «لبنان سل» و«سيليس»، وملفات ما عُرف باسم «خليوي الميقاتي» القضائية التي حُفظت في أدراج العدلية، ولم تحل دون تعيين نجيب ميقاتي وزيراً، انتخابه نائباً، تشكيله الحكومة أكثر من مرّة، وتعاظم نفوذه داخل الدولة.
مثّل قطاع الاتصالات منجم المعادن الثمينة لآل ميقاتي، وقد استخدمت العائلة حصتها في شركة «سيليس» كأداة تنفيذية لتحقيق الأرباح. فبعد أن نالت الشركتان من الدولة اللبنانية عام 1994 عقدَي استثمار لمدة عشر سنوات، بدأت تُكبّد المشتركين أسعاراً باهظة مقارنة بما كان يدفعه السكان في دول عربية وغربية، مقابل اتهامات بعدم التصريح عن كامل الإيرادات تهرّباً من دفع حصّة الدولة منها، البالغة حينها 50% من أرباح الشركتين، ما يعني حرمان الخزينة العامة في لبنان من مئات ملايين الدولارات. وبالفعل، فُتح تحقيق بعمل شركتَي الخليوي خلال رئاسة الراحل سليم الحصّ للحكومة، وفُرضت غرامة بقيمة 300 مليون دولار أميركي على كل شركة تعويضاً عن الأرباح التي حُرمت منها الخزينة العامة. 600 مليون دولار، لم يُدفع منها فلسٌ واحد. عوض ذلك، وبعد إعادة ترؤس رفيق الحريري للحكومة، تم فسخ العقد مع الشركتين - خلافاً لرأي وزير الاتصالات في حينه - قبل ستة أشهر من انتهاء مدّته، وقد توصّلت الدولة إلى اتفاق مع الشركتين قضى بتدفيعهما مبلغ 179 مليون دولار فقط.
لم يقتصر عمل «الميقاتيين» داخل لبنان. توسّعوا في استثمارات قطاع الاتصالات في سوريا، السودان، غانا، اليمن، أفغانستان، ميانمار… وفي كلّ هذه البلدان استفادوا من حقّ حصري في توفير الخدمة، بعد نسجهم علاقات مع الفاعلين في تلك البلدان لمنع أي منافسة حقيقية والتحايل على السلطات عبر إخفاء الأرباح الحقيقية. وقد نشرت الصحافة تقارير عدّة عن شركة «انفستكوم» التي أسّسها الشقيقان طه ونجيب لتعمل في تلك البلدان، قبل أن يُقرّرا بيعها قبل سنوات إلى شركة «إم تي إن» في جنوب أفريقيا، على أن يحتفظا بحصّة 10% فيها.
ويشمل التحقيق الفرنسي أيضاً القروض السكنية التي حصل عليها طه ونجيب وماهر (نجل نجيب) ميقاتي بفوائد مُخفّضة، وعلى وجه الخصوص القرضين من بنك عودة، واحد بقيمة 150 مليون دولار لمجموعة نجيب ميقاتي، وقرضاً مماثلًا لمجموعة طه ميقاتي، أي ما مجموعه 300 مليون دولار لقرضين حصلت عليهما مجموعة واحدة، بما يُخالف القانون. ولكن يومها أفتى مصرف لبنان بقيادة رياض سلامة باعتبار كلّ مجموعة مُستقلة عن الأخرى. وفي هذا الإطار، كانت صحيفة «الأخبار» قد نشرت عام 2019 تحقيقاً يتضمّن أسماء المسؤولين الذين نالوا قروضاً مدعومة وخالفوا الأصول، من بينهم آل ميقاتي. وقد ذُكر أنّ الشركات المملوكة من «رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي وشقيقه طه وأولادهما على 10 قروض مدعومة لشراء شقق في بناية مطلّة على نادي اليخوت في بيروت، بلغت قيمتها الإجمالية 34.1 مليون دولار، موزّعة بين قروض بالدولار بقيمة 19.5 مليون دولار، وقروض بالليرة». وقامت في حينه النائبة العامة الاستئنافية السابقة في جبل لبنان، القاضية غادة عون بالادعاء على ميقاتي وابنه ماهر وشقيقه طه وبنك «عوده» بجرم «الإثراء غير المشروع» من طريق حصولهم على قروض سكنية مدعومة، وأحالتهم أمام قاضي التحقيق الأول في بيروت للتحقيق معهم. إلا أن الملف تم حفظه قبل 24 ساعة من تولي ميقاتي رئاسة الحكومة في العام 2021.
ستستند النيابة العامة المالية في فرنسا إلى كلّ ذلك لتعتبر أنّ عائلة ميقاتي حصلت على عقود عامة غير شفافة، وحقّقت أرباحاً هائلة، وحرمت الدولة اللبنانية من إيرادات مشروعة. كذلك، استفاد نجيب ميقاتي من خلال وجوده في السلطة من تمرير قرارات تُفيد الشركات التي يملكها، وهو ما يعني استغلالاً غير مشروعاً للوظيفة العامة. وفي موضوع القروض المدعومة، تعتبر النيابة العامة المالية أنّها تنطوي على التفاف على قانون النقد والتسليف والتزوير وإساءة استعمال السلطة.
ولكن ما دخل النيابة العامة المالية بملفات تخصّ المال العام اللبناني، وشركات لم تعمل داخل فرنسا؟ وفق المعلومات فإنّ القضاء الفرنسي يضع يده على القضية لأن لآل ميقاتي مصالح في شركات وأصول عقارية داخل فرنسا قد يكونون حصلوا عليها من مصادر أموال «غير نظيفة» ومن خلال ارتكاب مخالفات جزائية. فاعتبرت النيابة العامة المالية الفرنسية نفسها صاحبة سلطة تُخوّلها فتح التحقيق.
بعد أربع سنوات من العمل، ومن تأجيل البتّ بالملفات، وبعد حفظ الملف في موناكو نتيجة جواب القضاء اللبناني على استنابة فرنسية قضت بأن لا أدّلة على ارتكاب الأخوين ميقاتي لجرم تبييض الأموال، وبعد حفظ النيابة العامة المالية في فرنسا شكوى مماثلة، ما اعتبره يومها الإخوان ميقاتي انتصاراً لهما، عادت قبل أيام النيابة العامة المالية الفرنسية لتُباشر تحقيقاتها في مصدر ثروة آل ميقاتي في فرنسا. من غير المتوقع، وبعد أن وصلت الأمور إلى هذه المرحلة، أن تؤدّي أي ضغوط سياسية إلى التراجع عن التوسّع في التحقيقات. ومن المُفترض حالياً، وفق المسار القضائي التقليدي، أن تتم إحالة القضية إلى قاضي تحقيق مالي في فرنسا ليصار إلى الاستماع إلى المُشتبه بهم. أما في حال رفض آل ميقاتي ذلك، فيمكن أن يُصدر القضاء الفرنسي بحقهم مذكرات توقيف غيابية.
بيان من عائلة ميقاتي
صدر عن الرئيس نجيب ميقاتي وعائلة ميقاتي البيان الاتي:
إن الدعوى المقدّمة بتاريخ 2 نيسان 2024 أمام النيابة المالية الوطنية الفرنسية (PNF) من قبل جمعية “شيربا” وأطراف أخرى، تستوجب منّا التوضيح لوضع الأمور في نصابها.
إن مصدر ثروة عائلة ميقاتي واضح وقانوني وشفّاف، فهي ثمرة عقود طويلة من العمل والاستثمارات الدولية في قطاعات متنوّعة وذلك قبل تولّينا لأي مهام ومسؤوليات عامة في لبنان. وجاءت هذه الثروة دائماً بما يتوافق مع المعايير الدولية للحَوْكمة . ولطالما تعاونّا مع السلطات المختصّة، وقدّمنا كل المستندات اللازمة التي تثبت قانونية أنشطتنا.
إننا نؤكد أنّنا لم نتلقَّ حتى هذا الوقت أي إشعار من السلطات القضائية الفرنسية، ولم نعلم بما يُشاع عن دعوى قضائية او فتحٍ مزعومٍ لتحقيق قضائي إلا عبر وسائل الإعلام.
بطبيعة الحال، إننا نثق تماماً باستقلالية القضاء الفرنسي وجديّته، ونحن على أتمّ الاستعداد لتقديم أي معلومات إضافية تُطلب منّا. ونُجدّد تمسّكنا بالمبدأ الأساسي المتمثّل بقرينة البراءة.
كما نُدين بشدّة أي محاولة سياسية أو انتهازية للنيل من سمعتنا من خلال تكرار مزاعم سبق أن رفضتها هيئات قضائية مختلفة، ونحتفظ بحقوقنا كاملة لناحية ملاحقة أو مقاضاة أي مشاركة في نشر وتوزيع معلومات مُضلّلة أو تشهيرية.