وسط بيروت: بين عودة الحياة التجارية وتحديّات الاستمرارية
بين أروقة وسط بيروت التجارية، تعود الحياة تدريجًا لتنتشل المكان من صمت طال أمده. بعد سنوات عصيبة من الانهيار الاقتصاديّ المدمّر وانفجار المرفأ المأساويّ، تشهد الشوارع التي كانت يومًا تعج بالحركة، وميضاً من النشاط يعيد إلى الأذهان ذكريات ازدهار لم يعد يراها الكثيرون إلا في الصور. أضواء المتاجر الفاخرة تعود لتومض، وأصوات الزبائن تتردد من جديد بين المباني التراثية المتجددة، في مشهد يوحي بأن قلب العاصمة اللبنانية يخفق مرة أخرى، وإن بنبض متأنٍ. وقد تكون فترة اعياد الميلاد ورأس السنة، عنصرا مساهمًا في ازدهار الحركة، مترافقا مع توافد زوار الوسط لمشاهدة الزينة التي تضيء سماء العاصمة.
ما تعيشه أسواق وسط بيروت هذه الأيام من حالة من الحيويّة المتجددة، وحركة التسوق والاستقطاب اللافت يتجاوز التوقعات، وفق ما تؤكده شركة "سوليدير" المسؤولة عن تطوير المنطقة.
يقول مصدر رفيع في الشركة لـ"كافيين دوت برس" ان "الاستراتيجية المعتمدة ترتكز على إعادة جذب الناس إلى وسط بيروت من خلال تجربة متكاملة تجمع بين التسوّق والترفيه والثقافة"، مشيرًا إلى "اقبال متزايد فاق التوقعات في الفترة الأخيرة".
ويضيف المصدر "نركز على استقطاب علامات تجارية عالمية حصرية، إلى جانب دعم العلامات المحلية، وتنظيم فاعليّات متنوعة لإحياء الشوارع والساحات"، مؤكداً أن الهدف هو "تحويل أسواق بيروت إلى مساحة حياة والتقاء، لا مجرد وجهة تجارية".
تحسن نسبيّ في المبيعات
يدعم هذا المشهد شهادة احد أصحاب المتاجر في المنطقة الذي يقول "بعد فترة ركود طويلة، بدأنا نلاحظ عودة تدريجية للناس إلى الأسواق. صحيح أن القوة الشرائية لا تزال محدودة مقارنة بما قبل الأزمات، لكن الحركة موجودة والناس بدأوا يقتنون مجددًا، خاصة في المناسبات والأعياد".
ويشير التاجر لـ"كافيين دوت برس"الى ان "السوّاح العرب يساهمون في دفع عجلة الشراء، لكن اللبنانيين أيضًا بدأوا يعودون، وإن كان إنفاقهم أقل من السابق. هناك شعور بأن الناس يريدون أن يعيشوا ويستمتعوا بالخروج بعد سنوات من التقشف والإغلاق".
تحديّات الإغلاق
لكن خلف هذه الصورة المشرقة، تبقى تحديّات كبيرة تواجه بعض التجار. ففي شارع يطل على ساحة النجمة، يقف محمد فارس صاحب مطعم "بيروتي عتيق" منذ 2007 على حافة الإغلاق. يقول فارس "أخسر شهريًا ما يقارب 5 آلاف دولار، دون أي دعم من الجهات المعنية"، مشيراً إلى أن احدى مشكلاته تتعلق بـ"الخيمة" التي طُلب منه استبدالها بأخرى جديدة بتكلفة 30 ألف دولار.
الحالة التي يعيشها صاحب المطعم في "الشارع الفوقاني" ليست فريدة. فبعد الازمة الاقتصادية وانفجار المرفأ، يواجه العديد من التجار في وسط بيروت تحديات متشابهة: إيجارات مرتفعة، نقص في الزبائن، تكاليف تشغيل باهظة، وخدمات عامة متدهورة.
ويتابع فارس "يعمل المقهى على البطاريات عندما ينقطع التيار"، في إشارة إلى أزمة الكهرباء المزمنة في لبنان. وهو يتحمل تكاليف إضافية لتأمين الحد الأدنى من الخدمات في محله.
صاحب المطعم الذي يواجه خطر الإغلاق يمثل صوتًا لعدد من التجار الذين يشعرون بأنهم خارج خريطة الإحياء التجاري لوسط بيروت. وهو يطالب بـ"خطة شاملة تعيد النشاط للشارع وتضمن استمرارية العمل للناس الذين يعتمدون عليه".
لـ "سوليدير" وجهة نظر أخرى، ففي ردّها تقول "منطقة ساحة النجمة تتمتع بخصوصية استثنائية كونها تضم مجلس النواب وعددًا من المؤسسات الرسمية"، مشيرة إلى أن الشركة "سلّمت إنشاءات البنية التحتية والأرصفة إلى بلدية بيروت منذ سنوات".
أما في شأن الخيمة، فيؤكد المصدر أن "استخدام الأرصفة والساحات يخضع لمعايير موّحدة تطبق على جميع المؤسسات التجارية دون استثناء"، وأن وضع خيمة ثابتة "يشكل مخالفة صريحة للنظام المعمول به".
الحالة التي يعيشها وسط بيروت تعكس تناقضًا واضحًا بين عودة النشاط التجاري في بعض الأجزاء واستمرارية التحديّات في أجزاء أخرى. بينما تظهر المؤشرات الإيجابية من خلال عودة الحركة والتسوق، تبقى هناك حاجة لمعالجة التحديات الهيكلية التي تواجه التجار، خاصة الصغار منهم.
ويبقى السؤال المطروح هو كيف يمكن تحقيق إحياء حقيقيّ وشامل لوسط بيروت يأخذ في الاعتبار كلّ مكوناته، ويضمن استمرارية من صمدوا خلال السنوات الصعبة، في وقت تسعى "سوليدير" لتحويل المنطقة إلى وجهة تجارية وترفيهية راقية تلبي تطلعات جديدة في مرحلة ما بعد الأزمات.