ما يقوله الخريف للشتاء

ما يقوله الخريف للشتاء

يمضي فصل الخريف أيّامه حتّى آخر شموسه وهو  منهمك بمعرض لوحاته الدائمة التشكّل، دون أن يشعر بالتعب والإنهاك. لا بل أنّ قواه تتجدّد كلّما أضاف إلى القائمة عملًا من أعماله في صورته الأوّليّة. أو كلّما أحلّ ، بكلّ شغف، عملًا محّل آخر، مالئًا بذلك رؤوس المبتهجين بإطالة وجودهم في المكان شبه المقفر بالمناظر الطبيعيّة والأزهار والأحلام .

 ينتظر الخريف حلول الليل الذي يؤجّل توهّج ألوانه، مكتفيًا بتأمّل النجوم، ريثما ينبلج الفجر، ويعاود العمل بفرشاته، من حيث انتهى قبل ساعات معدودات، صانعًا حتّى من أكوام الورق المتساقط الذاهب إلى يباسه، لوحات تشهد على مدى امتلاكه للمؤهّلات الفنيّة، قبل أن تبدّدها الريح، أو تدوسها الأقدام، ولو قلّ عديدها، وسط السكون الفوق أرضيّ المخيّم على الأرجاء. مستلقيًا، الحين بعد الحين، تحت الشمس، ما دام ذلك ممكنًا. مفسحًا المجال لمتتبّعي نتاجه البالغ الغنى الذي لا يكفّ عن التحوّل، كي يجولوا بأبصارهم في شتّى أنحاء الأفق، دون أن يعرفوا في أيّ صوب يثبتونه. مرتاحين، في غمرة الهدوء السائد، إلى أنّ كلّ شيء لهم. فيتملّكهم الفرح وهم يبدون ملوّحي البشرة، مستعيدين نوعًا من الفتوّة الموهومة، وهم يقعون في إغواء الشمس المخترقة لجلباب الغيم الذي ترتديه الجبال .

ويواصل الخريف استكمال إبداعاته، والانكباب على رسومه، ما دامت السماء تحبس أمطارها، وتبخل بثلوجها، في انتظار وصول المنخفضات الجويّة التي ستقرر مصيره، بنشرها لخلفيّاتها المعتمة وراء ما كان أشبه بالخيال بارتسامه من مشاهد، بانية للخريف بيتًا في الضباب، كي ينام فيه. واضعة بالتماع بروقها، وقصف رعودها، حدًّا لما كان يلّفه من هدوء، سرعان ما سيعقبها بعصف رياحه المرتقبة الهبوب التي سيرتجف الخريف خوفًا منها .

 في الأثناء، سيقول الخريف، بكامل عذوبته، للشتاء الآتي على صهوة غيوم سوداء الذي سيطغى، ويستبدّ: "ها قد أوصدت أبواب معرضي الفتّان، وطويت لوحاتي على عجل، واحدة تلو الأخرى. وقد تسبّبت بإفلاسي. لك يوم يا ظالم. فالربيع سيكون لك بالمرصاد. والكيل الذي كلت لي به سيُكال لك أنت به، وأزود. برغم جبروتك". وسيكمل الخريف قائلًا: "وفي تمام وقتها ستجدّد الأرض قواها. ستتحرّك الأغصان الحبلى بالبراعم. وتتفتّح الأزهار. وتتلاحق مواكب الجمال مغدقة هباتها. وتعود النشوة لتدير الرؤوس بهواء الربيع المسكر، طارد صقيعك، ومذيب ثلوجك عن الأعالي. قبل أن يرسم تحيّة وداعك، بغبار الطلع، في الأجواء .

 

اقرأ المزيد من كتابات محسن أ. يمين