"كان غير شكل الزيتون"
في شهرَي تشرين الأوّل والثاني، تلقي المناهج التربويّة للغة العربيّة ضوءًا على موسم الزيتون. فنجد في الكتب المدرسيّة الخاصّة بالصغار نصوصًا مرفقة بصور عن قطاف الزيتون وعصره. وتواكب هذه الدروس أنشطة تهدف إلى تعريف التلامذة على موسم كان يجمع العائلة حول شجرات معمّرة توارثها الأبناء عن الأجداد ويأملون في تركها للأحفاد سخيّة واعدة بالعطاء.
كان الاستعداد لموسم القطاف حافلًا بالآمال والأحلام. يستعدّ فيه أصحاب الحقول لمهمّة شاقّة لكن فيها متعة الحلم بالحبوب السوداء أو الخضراء تملأ الأوعية، وبذهب الزيت يسيل في المعصرة قبل أن يستقرّ ليهدأ في الخوابي.
كان. ثمّ صار الموسم مجرّد درس في كتاب القراءة يعطى للصغار، بعدما مات الأجداد وتعب الأبناء من ثقل العمر والعمل وهاجر الأحفاد. كان. ثمّ أصبح الموسم عبئًا لا يعرف أصحاب الأرض كيف يخفّفون عن أنفسهم مشقّاته بعدما صارت كلفة اليد العاملة باهظة الكلفة فترفع سعر الصفيحة وتعيق بيع ما يفيض عن حاجة البيت. هذا إن وُجدت يد لبنانيّة تعمل في وقت يحاول كثر الاستغناء عن العمّال السوريّين. كان. ثمّ باتت الشجرات صورة في كتاب بعدما تواطأ عليها التغيّر المناخيّ مع سائر أسباب التلوث وهجرة اليد العاملة، ما جعل شجرة الخير والبركة تيبس وتصغر حبّاتها قبل أن تتساقط جافّة يابسة. ولم يبق من الأشجار سوى مقطع صغير من قصيدة لالياس أبو شبكة من ديوان "الألحان" يتحدّى فيها الشاعر الطبيعة إن عصفت وأمطرت: "والقمح في أعدالنا/ والزيت في قِلالنا/ والتين في السلال/ وكلّها حلال/ من جبالنا".
الأمثال الشعبيّة في لبنان، وكذلك في فلسطين وسوريا، تظهر مكانة الزيت في الحياة الزراعيّة والدورة الاقتصاديّة وكذلك في تحقيق أمن غذائيّ مع الاعتراف بالتعب الذي يرافق قطاف الزيتون وعصره. فعن القيمة الغذائيّة للزيت وأهميّة وجوده في المطبخ لكونه عنصرًا أساسًا في المأكولات تقول الأمثال: "كُولْ زيت وناطح الحيط" و"الخُبز والزيت سَبعين (سبع يعني أسد) بالبيت" و"إذا عندي طحين وزيت زقّفت وغنّيت" و"اقعد ببيتك وغمّس خبزك بزيتك" و"إن حضر القمح والزيت تأمنّت مونة البيت".
وعن التعب الذي يرافق هذا الموسم وانصراف أفراد العائلة للعمل في جمعه تقول الأمثال: "بإيام الزّيت بالكاد المرا تطبخ وتكنّس البيت" و "شجرة الزيتون مثل ما بدّك منها بدها منّك" أي إن كنت تطلب منها العطاء فعليك العناية بها، و"الزيتون زيته طيّب بس جمعو بيشيّب".
أمّا عن كيفيّة زراعة أشجار الزيتون فيقول المثل: "ابعد إختي عنّي وخود زيتها منّي" كدليل على وجوب ترك مسافة مدروسة بين شجرة وأختها. وعن توضيب الزيتون ينصح المثل قائلًا: عليك بمسبّح السقي ومرصوص البَعل" أي من الأفضل أخذ الزيتون المعدّ للتخزين مع إبقاء الحبّة كما هي من الأشجار المروية، بينما يُنصح بأخد الزيتون للرصّ (أي ضرب الحبّة كي تنشقّ قليلًا) من الأشجار غير المسقية. وعند اختيار الزيت يقول المثل: "الزيت الطيّب من الشجر للحجر" أي لا يُجمع ويُخزّن ما يعرّضه للحماوة بل ينقل مباشرة إلى المعصرة التي كانت من الحجر قبل تحوّلها آليّة. لذلك يقال عن الزيت الممتاز: معصور على البارد. وهذا الزيت الطيّب يجب أن يباع بسعر مرتفع لذلك يقول المثل: "خلّي الزيت بجرارو حتّى تجي أسعارو".
ورد في كتاب الدكتور فلاح أبو جودة "طمنونا عنكم"، الصادر لدى دار سائر المشرق، نصّ بعنوان: "قمح وزيتون وطيور"، أقتطف منه هذه الفقرة التي تدلّ على دور شجرة الزيتون في إنقاذ عائلة من الموت جوعًا في خلال الحرب العالميّة الأولى: "وقد ذكّرني شقيقي هاني بقصّة والدة جدّتي، «ريما صَوْما البجّاني» التي مات زوجها شابًّا، وكانت لا تملك سوى قطعة أرض صغيرة يوجد فيها أربع شجرات زيتون، والزيتونة –كما تعرفون– هي شجرة الأرامل؛ ففلحت الأرض، وزرعت القمح، ولفَّت غمارَه على جذوع شجر الزّيتون، ثمّ دارت في البلاد تبحث فوق رؤوس الجبال عن شجر المقساس أو الدّبق، لتأتيَ بثمارها وتغليها وتصنع منها دبقًا للعصافير، تدهن به عيدان الزّيتون، فتصطاد وتُطعم أولادها الخمسة قمحًا وزيتونًا وطيورًا... ولم تتركهم يموتون من الجوع".
في زمن مضى، سافر الشبّان والشابّات إلى فرنسا في موسم قطاف العنب. كان ذلك الفعل مدعاة مباهاة وفخر. الآن يهرب هؤلاء من قطاف الزيتون معتبرينه غير لائق بوظائفهم الراقية، ويفضّلون أن يدفعوا لأهلهم أجرة العمّال على أن يلوّثوا أيديهم بزيت قدّسته الشمس. وكانت المدارس ترسل تلامذتها إلى المعاصر ليشهدوا على أعجوبة تحويل الحبّات زيتًا صافيًا. أمّا الآن، فلا زيتون ولا زيت ولا خوابي، ولا نشاط تربويًّا لموسم بات من العهد البائد.
صحيح أنّ واقع الأمر يختلف بين منطقة وأخرى. ففي الريف الساحليّ المشرف على البحر اندثار الموسم واضح مع اجتياح الباطون الحقول. وفي القرى والبلدات الجبليّة لا يزال هناك من يكترث ويهتمّ، لكنّ الوضع غير مطمئن إن نظرنا إلى الفئة العمريّة التي تجاهد وقد امتصّت الأيّام والمواسم الطاقة والصحّة.
كنّا نعلّم التلامذة كيف وقف امرؤ القيس على أطلال كانت منزل الحبيبة. ويبكي. اليوم، نعلّمهم التأمّل في صورة لا تعطي نقطة زيت ولا تثير الشجن والحنين. وحين تصير الطبيعة صورة في كتاب، وأصوات العصافير والريح والنهر تسجيلات صوتيّة عبر قنوات الموسيقى، يعني أنّنا صرنا آليّين قبل أن يصير الإنسان/ الآلة مقيمًا بيننا. وربّما أمسى علينا أن ننتظره، فقد نبرمجه لقطاف الزيتون وحمل الأكياس إلى المعصرة، والعودة بالزيت إلى البيت.
ومن يعلم إن كانت هذه الآلة ستجد متعة في الجلوس تحت شجرة زيتون معمّرة في حلقة من الكبار والصغار، يستريحون ويتناولون الغداء في فيء الأغصان وبرفقة الذكريات عمّن زرع وشذّب واعتنى وأورث. قد تبكي هذه الآلة حين تسمع قصص الأجداد وكم تعبوا كي يتركوا هذه الأرض خضراء معطاء. أمّا الأولاد الذين ينظرون إلى الصورة فقد يضحكون ويسخرون من تضييع الوقت على موسم يمكن إيجاده في عبوات زجاجيّة على أرفف المتاجر.
ولم يعد ببعيد الزمن الذي سنرى في الكتب – أيّا يكن نوعها وشكلها – صورة لأناس آليّين يقطفون الزيتون. وسيسأل التلامذة "الآليون": لمن يقطفون الزيتون ونحن الآليين لا نشرب ولا نأكل؟
هذا كلّه قبل أن تختفي الأشجار وتصير الكتب شرائح مزروعة في أجساد لا جنس لها ولا هويّة.
في النتيجة، "ما حدا بيقول عن زيتو عكر" سوى جيل ابتعد عن الأرض وبات يرغب في تزهيد الشراة كي تبور المواسم ويقتنع الآباء ببيع الأرض من أجل شراء سيارة أو إقامة عرس فخم. ولأنّ زياد الرحباني رأى هذا المستقبل القاحل كتب ما غنّته غنّت فيروز: كان غير شكل الزيتون... كان غير شكل الصابون. فكيف تبقى الأمور على حالها واللي راحوا راحوا... "يا ضيعانن راحوا".
