اقساط المدارس الخاصّة ضربة اضافية للطبقة الوسطى

يروى أنّ مطران بيروت للموارنة يوسف الدبس، مؤسّس مدرسة الحكمة، سأل القيّم عن الشؤون الماليّة عن وضع المدرسة فأخبره أنّها حقّقت ربحًا فأوعز إليه بتوزيع الربح على التلامذة.
كان ذلك زمن إنشاء مدارس وطنيّة للطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر، مدارس تراعي ظروفهم وتعمل على نشر العلم والمعرفة بينهم، من أجل نهضة وطنيّة تأخذ بالاعتبار ظروف المجتمع الخارج من تأثير الحربين العالميّتين والمجاعة.
لكنّ ذلك الزمن صار من التاريخ، والطبقة الوسطى إلى اضمحلال، وبالتالي فكلّ ما يتعلّق بها وبدعمها آيل إلى الزوال.
تقول المدارس الخاصّة إنّها "خاصّة" كما تؤكّد صفتها. وبالتالي تخضع لشروط يعرضها أصحاب هذه المدارس واضحة أمام الراغبين في وضع أولادهم فيها. وأولياء التلاميذ مطالبون بالاطّلاع على هذه الشروط قبل التوجّه إلى هذه المدرسة أو تلك. وتشمل هذه الشروط فضلًا عن القسط: اللغة الأجنبيّة للمدرسة، الزيّ الموحّد في حال وجوده، السلوك والانضباط، مسار الدروس، وسواها كثير. إذًا القضيّة قضيّة عرض وطلب. المدرسة تعرض عملها التربويّ وطريقة تنفيذه وكلفته والأهالي يوافقون أو يرفضون.
لا يعني هذا الكلام دفاعًا أعمى عن ارتفاع الأقساط في المؤسّسات التربويّة الخاصّة العلمانيّة والكاثوليكيّة وسواها، ولكن في الوقت نفسه لا يعني أن تكون الرغبة في تسجيل الأولاد في المدرسة à la carte، أي نريد كأهل أن يكون أولادنا في أحسن مدرسة ولكن بأبخس قسط. فمن طلب العلى لأولاده في مستويات كثيرة: اجتماعيّة ورياضيّة وفنيّة وثقافيّة وأنشطة ورحلات عليه أن يسهر الليالي لتأمين القسط، في غياب سياسة تربويّة وطنيّة واضحة وشاملة.
ولا يعني كلّ ما سبق إعفاء المدارس من مسؤوليّة خياراتها في الانتماء إلى العالميّة عبر ضمّ المدرسة المفروض أنّها لبنانيّة إلى عالم الفرنكونفونيّة عبر الـ homologation أو إلى الأنغلوفونية عبر ال accredetatiaon، بالإضافة إلى البكالوريا الدوليّة IB.
قبل أن أعتزل عالم التربية في المدارس الخاصّة، كنت أشهد على ارتفاع الأبنية وتوسيع الملاعب وتنوّع الأنشطة والرحلات داخل البلد وخارجه وتطوير التكنولوجيا، كان ذلك جزءًا من متطلّبات العولمة والحداثة، وكان الأهالي راضين بذلك بل يطالبون به. ولكن حين ترتفع الأقساط تقوم القيامة وتعلو صرخات الاحتجاج. وبمثل ما كنت شاهدة على النمو البنيانيّ والتحديث في المناهج الأجنبيّة كنت أشهد كذلك على انخفاض عدد التلامذة في الصفوف. وهذا أمر ستدفع ثمنه المدرسة من رصيدها الماليّ ومن جيوب الأثرياء الذين يريدون هذا المستوى العالميّ في التربية.
في البلاد التي يتمّ استيراد المناهج الأجنبيّة الحديثة ثمّة دعم، وثمة مدارس حكومية تؤمّن مستوى لائقًا، ولكن في لبنان يختلف الأمر. فحين سترضى المدارس الخاصّة بمساعدات من الدولة يعني أنّها فقدت حريّتها في التوظيف والصرف ووضع المناهج. وهذا أمر غير وارد لا في ذهن المدارس ولا في بال الأهل الذين عليهم أن يقرّروا أي مدرسة يريدون لأولادهم.
حين تألّفت الحكومة الحالية انتشرت عبارة: "المدرسة اللي بتخرّج وزرا" في إشارة إلى مدرسة السيّدة للأباء اليسوعيّين في الجمهور. هذا التباهي له كلفة وثمن، من المؤسف أنّ أكثر اللبنانيّين مستعدّون لدفعهما في مقابل مستقبل ليست الوزارة إلّا واحدة من وجوهه. ومن الواضح أنّ ثمّة من يقدر على دفعه من دون اعتراض أو رفض، لقدرته الماليّة أوّلًا ولأنّه يريد لأولاده رفقة من بيئة مترفة بغضّ النظر عن مصادر الأموال.
لا شكّ أنّ ثمّة طبقة أثرياء جدد بدأت تكتسح المدارس الخاصّة، بحسب ما أسمعه من معلّمات ومعلّمين في أرقى المدارس. فلم يعد الراتب إذًا مشكلة عند أفراد الهيئة التعليميّة في هذه الصروح التربويّة، بل نوعيّة التلامذة الذين باتوا "زبائن" يسمعون من أهلهم أنّ كلمتهم أقوى من كلمة المعلّمة وصار الواحد منهم قادرًا على القول بثقة "بيّي أقوى من بيّك". فهل هذا ما تريده المدارس اليوم؟
بالحكمة بدأت، وبالحكمة أختم. فحين تأسّست مدرسة الحكمة فرع مار يوحنا في منطقة برازيليا ببعبدا سنة 1960. كان رئيسها الأب لويس الحلو حريصًا على دمج طبقات اجتماعيّة مختلفة في صفّ واحد. كان يقول ما معناه: يجب أن تتقارب الطبقات الاجتماعيّة ويكتشف بعضها البعض الآخر. هكذا يتبادل التلامذة الخبرات والتصرّفات فيتعلّمون من بعضهم ويندمجون من دون أن نسمح لطبقة بالتكبّر بحجّة مرتبتها الاجتماعيّة ولا لطبقة بالخجل من وضعها الاجتماعيّ.
كان ذلك زمن الحكمة والحكماء. وكانت التربية رسالة، وكانت المدرسة الخاصّة الوطنيّة ركنًا من أركان نهوض لبنان في عصره الذهبيّ.
أمّا اليوم فالتعليم لمن لم يفقد مدّخراته في المصارف، والملاعب الشاسعة فخر المؤسّسات التربويّة في حين أنّ المكتبة في المدرسة تقفر وتصغر وتصفّر الكتب ولا من يقرأ أو يهتمّ.