وزارة لثقافة قيد الدرس

Les Poètes au bois sacré - Henri Martin
علّمنا في الجامعة اللبنانيّة الدكتور الباحث نقولا سعادة. ما زلت أذكر مقولته في الشأن الثقافيّ وأجدها، بالرغم من مرور الزمن، صالحة لوضعنا اليوم أكثر ممّا كانت حين قالها لنا في ثمانينيّات القرن الماضي.
الثقافة في رأيه شأن شاملٌ وجوهَ الحياة كلّها، ولا تستقيم أمورها في جانب دون آخر. وأعطانا مثلًا يبدو شديد المعاصرة: لا يمكن أن تكون السينما جاذبة لجمهور عريض، بينما الفنون التشكيليّة محصورة بنخبة ضئيلة العدد من المهتمّين.
وتابع ما خلاصته: من الواجب أن تتساوى إلى حدّ كبير مظاهر الحركة الثقافيّة لكي يصحّ اعتبار مجتمعٍ ما مثقّفًا ذا فكر نقديّ علميّ شامل قادر على إحداث تقدّم وتطوّر ملحوظَين.
بعيدًا من وزير الثقافة الحالي غسّان سلامة، وهو المشهود له بثقافة واسعة، هل نحن فعلًا في حاجة إلى وزارة للثقافة، والثقافة تكاد تكون محصورة بالمهرجانات الصيفيّة وعروض الأزياء؟ إنّ غياب الصفحات الثقافيّة عن أكثر الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة، أو فلنقل تواضع موادّها ومقالاتها، يفضح ضمور الاهتمام بالثقافة. هذا كي لا نأتي على ذكر المحطّات التلفزيونيّة اللبنانيّة التي تعتبر الشأن الثقافيّ ضيفًا ثقيل الظلّ تكفيه بضع دقائق رفعًا لعتب ودفعًا للوم. أمّا المؤسّسات التربويّة حيث من الممكن أن نؤسّس لجمهور مثقّف فأسيرة صنميّة مناهج يضاعف من جمودها رضوخ المعلّمين لأوامرها ونواهيها.
ربّما من طبيعة الثقافة أن تُحصر في نخبة واعية مجتهدة فاعلة، لكن في مجتمعات أخرى أكثر وعيًا يبقى هناك حدّ أدنى من التقارب بين هذه النخبة وعامة الناس، أو يُفسح لها المجال على الأقلّ كي تطلّ على جمهور عريض ترشده وتوجّهه أو تثير حفيظته فيسأل ويسائل. أمّا أن تكون المهرجانات الصاخبة ومسلسلات رمضان المنتظرة بشغف ومتابعة أخبار الفنّانات والفنّانين وفيديوهات حياتهم الشخصيّة هي الجانب المشعّ في ليل ثقافتنا فأمور تشير إلى خلل واضح في البنية الثقافيّة العامّة. في المقابل تبدو مغيّبةً أو موسميّة عابرة معارضُ الكتب والمكتبات العامّة والمتاحف والفنون التشكيليّة والتصوير الفوتوغرافيّ والموسيقى الكلاسيكيّة والمسرح ومسرح الأطفال، وكلّها تعمل بشقّ النفس لإثبات وجودها وإكمال رسالتها.
انطلاقًا من كلّ ذلك، يصير الترابط العملانيّ بين وزارات الثقافة والتربية والإعلام ضرورة حتميّة تهدف إلى إنقاذ الإنسان والمجتمع من البلادة الذهنيّة واضّطهاد الجمال والتنمّر على المثقّفين وتهميش دورهم. ففي المدرسة والجامعة واجب علينا أن نزرع شتول الفنّ والفكر والفلسفة والأدب، وفي المجتمع يمكن لنا أن نحصد ثمار ما زرعناه وعيًا وإدراكًا وعمقًا وجمالًا. يرافق كلّ ذلك تغطية إعلاميّة فتبدأ الصحف والمجلّات ومحطّات الإذاعة والتلفزيون بغربلة هذا الكمّ الهائل من المعلومات والأخبار فتسقط السطحيّ منها والسخيف والقبيح، وتبقي على العميق والجديّ والجميل.
وبغير ذلك سيزداد خطر الذكاء الاصطناعيّ، وسنقع كلّنا أكثر فأكثر تحت تأثير الآلة التي بدلًا من أن نستفيد منها ونجيّر دورها لخدمة الأصالة والرقيّ والخير والحقّ، صرنا أسراها المعتقلين في فخّ لاإنسانيّتها.
ليس الأمر ببعيد حين كان مفهوم الثقافة عند العامّة مرتبطًا بتعلّم اللغات. فكنّا نقرأ عند تعيين أحدهم في منصب رفيع أو عند رثاء آخر من الشخصيّات العامّة أنّه يجيد ثلاث لغات. أمّا اليوم فما نفع أن نعرف عددًا من اللغات إن كان ما سنقوله فيها لا يتعدّى عددًا من الجمل؟ وهل نعلّم الأولاد اللغات لأنّ دور لبنان مرهون فقط للخدمات السياحيّة والمصرفيّة؟ فبفضل الذكاء الاصطناعيّ اليوم باتت اللغات في متناول الجميع، لكن ماذا نريد أن نقول في هذه اللغات، وأيّ رسالة إنسانيّة فكريّة حضاريّة نريد أن نحمّلها؟ وهل نملك الحسّ النقديّ، وهو جوهر الثقافة ونواتها، كي نناقش هذا الذكاء الذي اخترعناه واخترناه وسيلة معرفة؟
إنّ ثقافة الأكل لا تعني بالضرورة الانصراف عن المطالعة، وثقافة الأزياء وآخر صرعات الموضة لا تتعارض مع الفلسفة والفكر، وثقافة النوادي الرياضيّة لن يضيرها أن تترافق مع حسّ أخلاقيّ راقٍ، والعناية بأظافر اليدين والقدمين يمكنها التوافق بكلّ أناقة وجمال مع العناية بالعقل وتنظيفه من أوساخ علقت به بسبب تواتر أخبار لا تفيد بشيء. حتّى "ثقافة" التواصل الاجتماعيّ سترتفع مرتبة إن صارت، فضلًا عن جانبها الترفيهيّ الآني، وسيلة معرفة وعلم واطّلاع على أفكار تغذّي العقل وتهذّب النفس.
فلنحدّد الثقافة التي نريدها أوّلًا (ثقاقة السلام والإنسانيّة والانفتاح كحجر أساس)، ولنبدأ من المدارس والبيوت، لنجد لاحقًا مجتمعًا سويًّا، تتكامل فيه الفنون والآداب والعلوم وتتلاقح وتنتج. هي ورشة دائمة إذًا، لأنّ الثقافة ليست فعلًا جامدًا، وليست انفعالًا آنيًّا أو موضة قصيرة الموسم، هي ثورة متجدّدة وثروة لا ينضب معينها، وإلّا فلا داعي لوزارة ترتبط قيمتها بوزيرها، فتعلو أهميّتها بسبب اسمه ويبهت دورها حين تطالها المحاصصة.