"أقول لطفلتي": شخبط شخابيط

"أقول لطفلتي": شخبط شخابيط

لم يكن الطفل يغفو إلّا على صوت أغنية ترندحها الجدّة أو الأمّ. ولكن في غفلة من الزمن كبر الأطفال واختفت صورة الجدّة المكلّل رأسها بثلج الشيب، وانصرفت الأمّهات إلى تحقيق ذواتهنّ في مهن ووظائف، تاركات أطفالهنّ بين أيدي مربيّات أجنبيات أو أمام شاشة التلفزيون أو الأيباد.

فأين الأطفال اليوم؟ وإلامَ يستمعون؟ وأين الأغنيات التي تكتب لهم؟

بعد التهويدات القديمة والعديّات المتوارثة، عرفت أغنيات الأطفال عهدًا ذهبيًّا مع شوشو أوّل من أنشأ مسرحًا للأطفال، ومع الأخوين عاصي ومنصور الرحباني خصوصًا في أغنيات عيد الميلاد وبعض أغنيات الأفلام. وكان للياس الرحباني دور بارز في هذا المجال فأصدر مجموعة من الأغنيات صمدت رغم مرور الزمن وبقيت عالقة في الأذهان مثل "عمّي بو مسعود" و "في عنّا شجرة" و"كلّن عندن سيّارات" و"عيدك يا ماما" و"طلع الضو ع الواوي" و"يلّا نعمر يا أصحابي". أمًا الأخوان غدي ومروان الرحباني فقدّما برنامجًا متكاملًا للأولاد بعنوان "إيّام الدراسة" من بطولة هدى حدّاد ومن أغنياتها فيه من كلماتهما ("يا فراشات النار"، "هربان من بلاد التلج"، "بابوشكا يا بابوشكا"، "رح خبّركن قصّة"، "خبّرني كيف حالك"...) وتعاونا فيه مع الشاعر جوزف أبي ضاهر الذي كتب "شادي وكتابو" و"رفقاتي حلوين" و"في عنّا خلف البستان" و"عم برسم مدينة" وغيرها. ولا ننسى كلمات هنري زغيب التي غنّتها ماجدة الرومي ونالت انتشارًا واسعًا لا يزال يتفاعل إلى اليوم ومنها "عندي بيسي" و"عيدي اليوم"، وكذلك أغنية "عندي سمكة ذهبيّة" من كلمات مهى بيرقدار الخال ولحن إحسان المنذر. 

وفي العصر الذهبيّ نفسه برز نتاج عائلة البندلي ونجمتها "ريمي" بأغنيات لا تزال تستعاد إلى اليوم مثل "بابا" و "يا أول كلمة حلوة بالتمّ"، و"غسّل وجك يا قمر" و"طير وعلّي يا حمام" و"اعطونا الطفولة". وقد تعاونت عائلة البندلي مع الشاعر جورج يمّين الذي كتب للأطفال ووضع النصّ والأغاني لفيلم "أماني تحت قوس قزح" وهو كان الفيلم الغنائيّ الوحيد للأطفال في لبنان، قبل أن يغامر المخرج ميلاد أبو موسى ويطلق فيلمه "أبو كيس" وفيه أغنيات تربويّة هادفة. 

 ولن ننسى الإشارة إلى الأغنيات في مسرحيّات الأطفال، وقد نال بعضها نصيبًا من الشهرة والانتشار، لا يتّسع المجال لحصرها هنا. 

 ولكن فجأة اختفى هذا النوع الأدبيّ، كأنّ الأطفال ما عادوا يولدون أطفالًا، بل هم كبار يغنّون في برامج الهواة أغنيات للكبار، يكادون لا يعرفون  معانيها، ويرقصون على موسيقى أغنيات وهم لا يحسنون المشي وتأليف جملة. وصرنا حين نريد أن نخرج عن الموضة ونبحث عن أغنية للأطفال نلجأ إلى ذاكرة اليوتيوب حيث نجد ""ألف باء بوباية" و"نانا الحلوة" لشوشو، أو "طيري يا طيّارة" و"تك تك يا ام سليمان" لفيروز. 

ولقد وقعت المدارس في السائد والمنتشر والموضة بحجة الحداثة، وصارت حفلات الصغار في مناسبة عيد الأمّ أو نهاية السنة مجرّد تقليد لبرامج الهواة أو مستوحاة من أغنيات أجنبيّة أو تلك التي من نوع "شخبط شخابيط". ولرفع العتب عن إهمال اللغة العربيّة تكتفي المدارس ببضع ردّات من الزجل تثير حماسة جمهور الأهالي. وهذا إنّ دلّ على شيء فعلى كسل المسؤولين في المدارس، إذ يستسهلون أمر إيجاد أغنيات نانسي عجرم بينما يجهلون ما كتبه كميل سلامة لمسرحيّاته (أغنية "حكاية يويو"1987 في مسرحية تحمل الاسم نفسه، وأغنية "بتتلج أو ما بتتلج" تؤدّيها جومانا مدوّر في مسرحيّة "بكلّ بساطة" 2003...) أو ما كتبه بالفصحى من إنتاج قناة طه للأطفال، كأغنية "مازن والترتيب"، و"مازن والقلم" وسواها كثير، أو كلمات الأغنيات لعبيدو باشا كما في كتاب "حكايا" التي لحّنها زياد الرحباني. كلّ هذا مخصّص للأطفال وله أهداف تعليميّة تربويّة. 

إنّها لمجزرة في حقّ الطفولة أن نقضي على براءتها قبل أن يقسو عودها ويشتدّ ساعدها وتقوى الرجلان على حملها نحو مستقبل زاهر بعدما عاشت سعيدة بعيدة عن هموم العشق في أغنيات كاظم الساهر وجورج وسّوف وأصالة ونجوى كرم وفضل شاكر وغيرهم من المغنيّات والمغنّين الذين يفتخر الأهل بأولادهم يحفظون أغنياتهم، كما كانوا يفتخرون بأول شتيمة يطلقونها.

أمّا الأغنيات التي يبالغ البعض في اعتبارها غير مناسبة للأطفال كأغنية "قمرة يا قمرة" للأخوين رحباني، وترى الحركات النسويّة فيها أسرًا لحريّة المرأة "حبيبك وصّاك ت تضلّي بالبيت" فمن السهل أن نرى أنّ الأغنية ليست للأطفال الصغار بل قد تصلح للفتيان والفتيات إذ من السهل أن يفهم هؤلاء معنى الغيرة وأنّ العادات الاجتماعيّة التي كانت سائدة عهدذاك كانت تفرض على المرأة الالتزام بالبيت. أم أنّنا نرى الأولاد كبارًا يفهمون ما يقال فقط حين يغنّون لوردة وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وعاصي الحلاني وأليسا وشيرين عبد الوهاب؟ مع التذكير هنا بأنّ الأخوين عاصي ومنصور لم يطرحا نفسيهما ككاتبَي أغنيات للأطفال، إنَما جاءت أعمالهما في هذا المجال عرضيّة ومتعلّقة بسياق العمل الفنيّ ومتطلّباته.

لا بدّ هنا من إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه. فبحكم عملي في التربية وبحثي عبر مواقع الإنترنت عن أغنيات الأطفال لاحظت أنّها لا تزال في مصر وسوريا والإمارات العربيّة المتّحدة على سبيل المثال تحظى باهتمام شعراء مجيدين يكتبونها وملحّنين يضعون كلماتها في قالب محبّب راقٍ. لكنّ جنوحها نحو العاميّة، خصوصًا في مصر، لا يسمح بتبنّيها في مدارسنا اللبنانيّة ومع ذلك فثمّة مدارس تلجأ إليها ما يسيء إلى الفصحى والمحكيّة اللبنانيّة، هذا فضلًا عن ارتباط أغنيات هذه البلدان (في الكلمات أو الصور المرفقة) بالدين كأنْ لا فصل للغة العربيّة عن الإسلام، ما يدفع المدارس المسيحيّة والعلمانيّة إلى عدم الاستعانة بها.  

لا تغيب عن البال طبعًا صعوبة إنتاج هذا النوع الأدبيّ/ الفنيّ، ما دامت السوق متخمة بأغنيات عمرو دياب ومايا دياب، لكن هل يعني ذلك عدم التحذير من مخاطر تهدّد اللغة العربيّة والمحكيّة اللبنانيّة حين نهملهما ونعلّم الأطفال والأولاد أغنيات أجنبيّة تعالج شتّى المواضيع؟ وهل نحمي الطفولة حين نبعدها عن اللغة الأمّ ونتركها بلا جدّة حنون أو أمّ عطوف يرافق صوتاهما نعاسًا يحلو له أن يغفو على إيقاع الأمان؟

في كتاب "عديّات" للكاتبة نجلا جريصاتي خوري، يجد من هم من جيلي، ومن قبله بكثير ومن بعده بقليل، صدى لما سمعناه في طفولتنا، ونستعيد مع كلّ عديّة نكهة اللوز والجوز والزبيب، أو لمسة الحنان على جبين ملتهب من حرارة المرض، فلماذا نحرم أطفال اليوم من ذكريات ملؤها الاهتمام والرعاية، ونتركهم لرحمة أغنيات لا تليق بعمرهم ولا تناسب براءتهم؟ قد تكون هذه العديّات قد تخطّت الزمن، فلماذا لا نكتب غيرها، ولماذا لا نؤسّس لذاكرة جديدة بعيدة عن عالم الكبار وشجونه، ذاكرة تحترم ذكاء الطفل وتنمّي خياله وتواكب عصره لكن بلغة جميلة وإحساس مرهف؟

لا يكفي أن نرمي كرة الأطفال في ملعب وزارة التربية، فالأهل وحدهم مسؤولون عن الأغنيات التي يسمعها أولادهم في البيت وعمّا يدرسونه في الروضات والمدارس. وحين يطالب هؤلاء الأهل بأغنيات تليق بأعمار أولادهم يتشجّع الشعراء والملحّنون ويكتبون أعمالًا جديدة لأجيال جديدة، وتتحمّس شركات الإنتاج لتبنّيها حين ترصد رغبة الآباء والأمّهات في إصلاح ما أفسده دهر من سوء الذوق وتدنّي المستوى وشيخوخة مبكرة أصابت أطفالنا. 

 

اقرأ المزيد من كتابات ماري القصيفي