فيلم "الستّ" وإشكاليّة سابقة ولاحقة
منذ بدأ عرض فيلم "الستّ" (سيناريو أحمد مراد، إخراج مروان حامد، بطولة منى زكي) رافقه سيل من المقالات الصحافيّة والتعليقات الفيسبوكيّة، غلب عليها ردود الفعل على تناول شخصيّة أم كلثوم في الفيلم. بعضها تناول التفاصيل المتعلّقة بحياتها الخاصّة، وبعضها انتقد الموقف السياسيّ للفيلم بشأن أم كلثوم. وكنت أتوقّع هذه الضجة مسبقًا، لما بقي في ذاكرتي من كتابات تناولت المسلسل التلفزيونيّ عن سيرة كوكب الشرق الذي عُرض مع مطلع القرن الحادي والعشرين (كتابة محفوظ عبد الرحمن، إخراج إنعام محمد علي، بطولة صابرين). وأتوقّع مثلها لاحقًا، لأنّ الإشكاليّة هي ذاتها، قائمة في الماضي والحاضر والأرجح في المستقبل. ولا علاقة لها بالعمل الفنيّ، إذ هي ترتبط بمنهجية التلقّي عند المتفرج العربيّ، عند أغلبية الجمهور والكثير من النقّاد.
إنّ تناوُل سيرة شخصيّة عامّة، أضحت من التراث الوطنيّ، أمرٌ صعب للغاية في العالم العربيّ. ذلك أنّ الجماهير من فرط إعجابها بتلك الشخصيّة، تخلع عليها هالة من القدسيّة، فيصبح المسّ بها، ولو صحيحًا، حرامًا. تغدو الشخصيّة أيقونة، لا تحتمل خدشًا. تفقد صفتها البَشَريّة، فلا يعتريها ضعفٌ ما، ولا يصدر عنها خطأ. تحفر الجماهير في ذاكرتها صورة راسخة لتلك الشخصيّة، فإذا لم يأتِ العمل الدراميّ مطابقّا تمامًا لهذه الصورة، يُعتبَر مخالفة، فتنهال عليه المآخذ.
أم كلثوم شخصيّة من التراث الوطنيّ؟ نعم، بلا تردد. ظلّت لعقود متربّعة على عرش الغناء العربيّ، وبجدارة، تحتلّ الصدارة في قلوب الجماهير المصريّة، والعربيّة أيضًا. كان المستمعون من مراكش إلى البحرين يتسمّرون بجوار أجهزة الراديو وقت بثّ حفلة الستّ، أو كوكب الشرق. تسمو بهم من حالة الاستماع إلى نشوة الطرب. ومن حقّ كلّ مصريّ أن يعتزّ بأنّ أمّ كلثوم مصريّة. كما لا يجوز وقوع الالتباس، فيتصوّر المتلقّي أنّ أيّ نقدٍ موجّهٍ للستّ، نقدٌ لمصر.
قرأت آراء متباينة خصوصًا في الفيسبوك: لماذا تناول الفيلم هذا الأمر، ولماذا أهمل ذاك. كان عليه أن يكتفي بالجانب الفنيّ من سيرة أم كلثوم، ليس من حقه المسّ بحياتها الشخصيّة. كانت بخيلة، لا، بل كريمة. كانت ذات شخصيّة متسلّطة، لا كانت ضعيفة. كانت ملكيّة الميول، لا كانت جمهوريّة. ومن فرط الآراء، اضطرّ مؤلّف الفيلم أحمد مراد إلى اتّخاذ موقف الدفاع، الأمر الذي أوقعه أحيانًا في ورطة. من ذلك قوله: "أسباب رفضها للزواج قد لا يكون فقط التفرّغ للغناء، لكنّها نشأت تحت يد رجل قوي جدًّا" وأضاف إنّ أيّ بنت تتربّى في مثل هذه الظروف "تحتاج في اختيارات الزواج إلى رجل قوي أيضًا". والوقائع تقول العكس، لأنّها تزوّجت فعلًا أربع مرّات! كانت الزيجة الأولى من الشيخ عبد الرحيم، صديق والدها، وكان وجوده نافعًا خلال رحلاتها، كونه مُحْرَمًا. والثانية عندما اقترنت لفترة قصيرة للغاية بالملحّن محمود الشريف، وفي الثالثة كان الصحافيّ مصطفى أمين هو الزوج، وفي الرابعة كان زوجها هو الطبيب حسن الحفناوي. ونشأت قصّة حبّ قوية بينها وبين شريف صبري باشا، خال الملك فاروق، لم تلقَ الرضا من القصر الملكيّ، فلم تنتهِ بزواج. أما الذين هاموا عشقا بها فما أكثرهم، يتصدّرهم أحمد رامي ومحمد القصبجي.
وينسى البعض وجود فارق مهمّ بين الوقائع الثابتة، وبين المرويّات الشعبية. الوقائع الثابتة تلزمنا باليقين، أمّا المرويّات الشعبيّة فهي تسمح لنا بالشكّ، إذ تختلف من سرد الراوية الأول - إذا عُرِف – ثمّ بحسب البهارات التي أضافها الرواة اللاحقون، فضلًا عن احتمال ورود خطأ عند الراوي الأوّل، ناجمٍ عن سوء إلمامه بالواقعة، برغم نواياه الحسنة.
قال الرواة إنّ الضبّاط الأحرار بعد حركة 23 يوليو 1952، أرادوا منع بثّ أغنيات أمّ كلثوم جميعها، لأنّها كانت من أنصار العهد الملكيّ السابق، وأن الذي حال دون ذلك هو جمال عبد الناصر، ونسبت إليه عبارات متباينة في دفاعه عن أمّ كلثوم وأغانيها. لا يوجد سند موثّق لهذه الرواية. لكن إذا تذكّرنا أنّ الضباط عاملوا رموز العهد الملكيّ من سياسيّين وإعلاميّين بصرامة بلغت حدّ السجن أو العزل التام عن المجتمع، فمن المنطقي أن يتحمّس بعضهم ويطالب بعزل أغاني الستّ. وإذا تذكّرنا أنّ جمال عبد الناصر كان من المعجبين فعلًا بأغانيها، وكان يستضيفها في منزله وغدت مقرّبة من عائلته، وأّنه كان يحضر بعض حفلاتها، وأنّه عرّاب تعاونها مع محمّد عبد الوهاب (إنت عمري) ومصالحتها مع زكريا أحمد، فمن المنطقيّ أن يكون هو الذي حال دون منع أغنيات أمّ كلثوم.
وتدلنا الوقائع الثابتة أنّ كوكب الشرق غنّت كثيرًا في مدح الملك فاروق، في عيد جلوسه على العرش، في ذكرى مولده، في يوم زفافه، في ذكرى مولد بناته. وثمّة تسجيل متوفر في اليوتيوب لحفلة النادي الأهليّ سنة 1944 بمناسبة عيد الفطر، وفيه تسمع الستّ تنشد "الليلة عيد"، وفجأة يعلو التصفيق فيعلن المذيع تشريف جلالة الملك فاروق، فبادرت أمّ كلثوم إلى تحيّته واستعادت مقطعًا كانت تجاوزته "هلالك هلّ علينا/ فرحنا له وغنينا"، وغيّرت كلمات أحد الأبيات من "تعيش يا نيل ونتهنّى، ونحيي لك ليالي العيد". إلى "يعيش فاروق ويتهنّى". واستعارت للمناسبة مقاطع من "حبيبي يسعد أوقاته". وفي الحفل أُعلن أنّ الملك منح الآنسة أم كلثوم "وسام الكمال". كما نالت لقب "صاحبة العصمة".
وتغيير كلمات القصيدة لتكتسب معنى مديح الملك فاروق، مارسه أحمد رامي محوّرًا قصيدة "المُلك بين يديك" لأحمد شوقي التي غنتها أمّ كلثوم. شوقي نظم قصيدته سنة 1910 قبل مولد الملك فاروق، مهنئًا فيها السلطان العثمانيّ محمد رشاد بعيد المولد النبويّ، وفي بيت يمدحه ويجعله شبيهًا بالخليفة عمر بن الخطاب، المعروف بـ "الفاروق": "فكأنك الفاروق في كرسيّه/ نعمت شعوب الأرض تحت ظلاله". وبحذف أل التعريف أحال رامي الاستعارة على الملك وهو يحكي عن مصر: "فاروق جمّلها وزانَ ضفافها/ عرش يلوذ الشعب تحت ظلاله".
وقد ذكر الصحافيّ الخبير محمد دياب واقعتين، مع توثيق المصدر. الأولى من تحقيق في مجلة "الكواكب" (5 أغسطس 1952) بعنوان "تطهير" جاء فيه: "توجهت الآنسة أم كلثوم إلى محطة الإذاعة لتشرف بنفسها على تنقية بعض الأغاني من فقرات خاصّة بالعهد الماضي، ولانتزاع هذه الفقرات من التسجيلات. وتمثل الصورة الآنسة أمّ كلثوم وهي تستمع إلى أغانيها بعد حذف بعض الفقرات منها". والثاني من مقالة كتبتها أم كلثوم بقلمها في مجلة "الهلال" (أكتوبر 1971) في عهد الرئيس السادات، ذكرت فيها أنّ ابن اختها اتّصل بها فجرًا وقال: "أبشري. لقد حقّق الله سبحانه وتعالى الأمل الكبير الذي طالما كنتِ تحلمين به. لقد قامت الثورة. وهرعتُ إلى الراديو. وسمعتُ أنور السادات بصوته القويّ المؤمن يبشّر الناس بقيام الثورة. ويتلو البيان الأوّل الذي خرجت مصر على صيحته تتنسم أنفاس الحرية. كان شيئًا كالأحلام".
نستنتج من الواقعة الأولى، أنّ كوكب الشرق على الأرجح قد بلغها آنذاك استياء بعض الضباط من تلك الأغاني فبادرت إلى محوها، كما أنّها استجابت إلى نداء اللواء محمد نجيب الذي طلب من الأحزاب والهيئات "تطهير صفوفها". ومن الواقعة الثانية أنّ الستّ أرادت أن تبرر تحوّلها من تأييد الملك إلى مناصرة خصومه، بأنّ الثورة كانت حلمها القديم. ولا توجد وقائع وأدلّة على اتّخاذها موقفًا سلبيًّا من الملك أيّام حكمه. لا هي ولا سواها من الفنانين. باختصار، كانت الستّ ضيفة البلاط الملكيّ والقصر الجمهوريّ برضا الحاكم في العهدين. ومن الممكن أنّها شعرت بسعادة تمييزها عن سواها، وتكريمها، كذلك من الممكن أنّها أقدمت على الولاء عن قناعة بطاعة أولي الأمر. كما أنّه ليس بمستغرب أن يُعجَب رأس الدولة بسيّدة الغناء العربيّ ويشرّع لها أبواب القصر. ولا ننسى أن أغاني مديح الملك نظمها شعراء مثل أحمد رامي وبيرم التونسي ومحمود حسن اسماعيل، ولحّن السواد الأعظم منها رياض السنباطي. وكلّ تعليق على موقف الستّ ينبغي أن يسري مثيله على هؤلاء أيضًا.
في عهد الجمهورية غنت أم كلثوم لمصر ولجمال عبد الناصر. وأغانيها للوطن أكثر من أغانيها للريّس. أبرزها "والله زمان يا سلاحي" (صلاح جاهين/ كمال الطويل) وقد أضحت لعقود النشيد الوطنيّ المصريّ. و"قصة السدّ" (العالي) من شعر عزيز أباظة ولحن السنباطي، و"محلاك يا مصري وإنت ع الدفّة" (تحيّة لتأميم قناة السويس، نظم صلاح جاهين ولحن محمد الموجي) "على باب مصر" (كامل الشناوي/ محمد عبد الوهاب). ومن أغانيها للريّس: "يا جمال يا مثال الوطنية/ أجمل أعيادنا المصرية" (إشارة إلى محاولة اغتياله في الإسكندرية سنة 1954، والأغنية كلمات بيرم التونسي ولحن السنباطي)، و"يا سلام ع الأمّة" (لتأييد إعادة انتخابه رئيسًا 1965) كلمات عبد الفتاح مصطفى ولحن الموجي و"قم واسمعها من أعماقي" لمناشدته العودة عن الاستقالة بعد هزيمة 1967 وهذه لحنها السنباطي عن قصيدة نظمها صالح جودت، كاتب "نشيد الفن"، التي أنشدها عبد الوهاب بمناسبة عيد ميلاد الملك سنة 1945. والتزام أم كلثوم بمصر وقضاياها واضح، خصوصًا في الحفلات التي تبرّعت بإحيائها من دون مكافأة، وخصّصت إيراداتها لدعم الجيش المصريّ.
في ختام هذه المقالة أنبّه إلى الفارق بين الفيلم الوثائقيّ والفيلم الروائيّ. الأوّل ملزم بتسجيل الوثائق من دون تعديل، أما صانع الفيلم الروائيّ فليس مطالبًا بالتوثيق التامّ، ومن حقّه التأويل وعرض وجهة نظره، شرط عدم تزوير الوقائع. ومحاسبته النقديّة تكون على هذا الأساس.
للحديث عن أمّ كلثوم صلة، أعرضها في مقالة لاحقة.