في وقت ما

في وقت ما

في وقت ما من عمر مضى، ويكمل، لم يكن هناك في طفولتنا التي لا تزال أصداؤها تترجّع في جميع حنايا قلوبنا، ما يضاهي الغيوم التشرينيّة في قدرتها على سلخنا عمّا كنا ننغمس فيه من ألعاب. فيما هي في الأعالي تلعب لعبتها الأزليّة. فنتخلّى حال التفاتنا إليها، لوقت قد يطول أو يقصر، عن كلّ ما كان ينصرف إليه اهتمامنا، ونتطلّع، في اندفاعة فرح داخليّ، صوبها بعيون مليئة بالمفاجأة والدهشة والحماسة والاكتشافات. وتروح أصواتنا تتعالى مقلقة الحارة ونحن ننسج حولها ما نشاء من تخيّلات، وتداعيات.

فكان واحدنا يغتني بالآخر في الغبطة، وفي رعشة النظرات البكر، والانتظار القلق لتكون أشكالها الدائمة التحوّل، وأحجامها المتبدّلة. قبل أن يبدّدها الهواء، نهارًا، كحلم جميل يزول مع صياح أقرب ديك، أو يتكفّل الليل بإطفاء الأنوار، ومحوها بسواده.

لحظات فرح كانت هاتيك، تتصاعد جوّاتنا، ما تصاعدت هذه الغيوم ، وتوزّعت، في الفلك.

ولا أجد اليوم حرجًا في الاعتراف بأنّ مثل هذه المشاعر ما زالت، إلى الآن، تسكننا، مذ ذاك. غير أنّنا لم نعد إلى المجاهرة بها، ونحن نتسمّر في حالة انخطاف أمام السحب التي تبلغ أوج سحرها، كلّما ارتدت ألوان الغروب الباهرة التي تضفي عليها هالات شاعريّة تثير فينا حماسة مستعارة من ذلك الزمن الذي ابتعد عنا، مقدار بُعد الغيوم. كما أننا لا نجرؤ على البوح بها إلّا للورق، لئلّا نتّهم بالانغماس في نزعتنا الرومنسيّة.

حينذاك، لم يكن القلق، ولا صعوبات شقّ طرقاتنا في الحياة، قد أرخت بظلالها بعد على صفحات أعمارنا. والحقّ أنّنا كنّا نعيش في أثنائها أحلى ما في طبيعتنا البشريّة، ونحن نميل بأنظارنا على ما يتراكم من السحب، بكلّ ما فينا من صفاء، متابعين اضطرابها في الريح. فتبدو وكأنّها أوراق كبيرة ناصعة البياض، حينًا، وملوّنة بأصابع الشمس، حينًا آخر، ترتعش في أشجار سماويّة غير مرئيّة. قبل مضيها مهلهلة، منفوشة، مرتفعة، متهاوية، متباعدة لتبين الزرقة، أو متلاقية ليعمّ البياض، ويلتحم بمزيد.

كانت هذه الغيوم التي نراها الآن كهمزة وصل بين المادّة والروح،  مثار استغرابنا، في صغرنا، لظنّنا بأنّها تتسلّق الجبال، دونما حاجة إلى سلالم، وأنّها تبلغ القمم الشاهقة المديرة للرؤوس، وهي في غنى عن الأوتاد والركائز والحبال المتينة. وذلك قبل تنبّهنا لهبوطها، من ارتفاعاتها العالية، على رؤوس الجبال، واعتبارنا، والحالة هذه - ونحن في سورة الحماسة الضاجّة في كياناتنا الطريّة، أنّ هذه الجبال، بيوت ضيافتها، ليس أكثر، واستراحاتها من عناء السفر. قبل أن تواصل شقّ مسالكها في الفضاء.

وإنّي لأكتب هذه الأسطر، وقد تمثّلت لذهني تلك اللحظات التي كانت تتضارب خلالها تحليلاتنا وتفسيراتنا لأشكال هذه الغيوم الخرافيّة الملامح، البادية وكأنّها طالعة من الأساطير، أو تتمرأى لمخيلاتنا كإسقاطات من سرديّات البطولة والفروسيّة، وحكايا قبل النوم. ولا ينغصّ عليّ فرحتي بمرآها، وهي تعيد إنتاج نفسها، وبالجمال الحقيقيّ الذي تخلقه الطبيعة في الخريف، وتتولّى ترتيبه، وتنسيقه، سوى انزلاقي في التفكير بكم بقي من الرفاق الذين كنت أتشارك وإيّاهم متعة هاتيك المشاهد... في وقت ما... وعانقوا تباعًا الشفافيّة التي تصير إليها الروح.

اقرأ المزيد من كتابات محسن أ. يمين