الخريف كمصنع كبير للدهشة

أعجب ما في الخريف أنّه لا يتعب، أو يملّ، من تكرار عرض مشاهده، ورسومه، بين عام وآخر. وأنّه لا يتأخّر في خلط أصباغه، ودمجها، في مزيج ساحر تلو الآخر، ولا في مواصلة تشكيله للوحاته حتّى آخر حدود روزنامته الملطّخة بالألوان.
قد تكون أوراق النبات المتسلّق على حيطان وشبابيك الأديرة، وأسوار البيوت، أوّل ما يعمل فيه فرشاته، قبل أن يوزّع جهوده، ماشيًا من شجرة إلى شجرة، ويعطينا نحن الشعور بأنّنا ننتقل من عمل فنيّ وضع لمساته الأخيرة عليه، إلى آخر .
ولا تلبث الأشجار أن تكتسب بريق الكرنفالات بضيائها الزاهي، وخليط أصباغها، وبمروحة أشكال أوراقها المختلفة، اختلاف البصمات والأيدي، في رحلتها السنويّة التي لن تتعدّى الأسابيع ما بين الأخضر والأصفر، البنيّ والخردليّ، النبيذيّ والقرمزيّ. بين النضارة واليباس. بين مواصلة عناقها للشمس، أو الذهاب لمراقصة العصافير في الفضاء الأزرق، قبل أن تتلاشى، ويكفّنها التراب .
وعلى العموم، فإنّ الخريف، بتوكّؤ نهاراته على سماء فائقة الوصف بصفائها المسكر، ولياليه المتجذّرة في صمتها، والأسرار، على بهاء القمر، يعتب على اللون الذي يعزو إلى نفسه كامل الدهشة التي تتولّانا ونحن ندير عيوننا المبهورة في ما تنتجه ملّوانته النشطة، والغزيرة. يعتب على اللون الشائف بحاله على سائر أخواته في التألّق تحت الشمس الساطعة التي تخفّف، حينًا فآخر، غيوم شاردة، ولو برقة منديل، من عدائيّتها. وكأنّ الله طرح على هذا اللون وحده وشاح ألوهيّته ليستأثر بإعجابنا. بينما سرّ الدهشة يكمن، في الواقع الفعليّ للخريف، في مجموعة ألوانه معًا، المتلاقية في انسجام الطبيعة، وليس في واحد منها بذاته. فالسرّ في هذا الخليط الذي يعتبر المصنع العجائبيّ للدهشة. حتّى لنحتار معه إلى أيّ صوب نرسل الطرف، ونحن نمجّد الرب في ما تراه عيوننا، ونجيل فيه أنظارنا. ويتعذّر علينا، إزاءه، تجميد نظراتنا على بقعة، دون سواها، نعتبرها أكثر تحريكًا للنفس، وتغذية للجوارح بطاقة الحياة، وبثًّا لنشوة الروح في الأوصال .
ويالمختصر، فنحن لا نحتاج إلى خريطة كي تقود خطانا إلى مكامن جمالاته، وإلى بوصلة كي تهدينا إلى أماكن الفتنة. لأنّ الجمال الذي يملأ القلوب فرحًا ينادينا من بعيد، ويحملنا على التوجّه إليه، حيثما يلوح، على بساط من الورق المتساقط، تلو البساط ، متوكّئين على كتف نسمة رقيقة، ونقية، لنلتقط أنفاسنا من تعب الدروب الجبليّة .
ولا يضيّع الخريف أجرنا كلّما انغمسنا في غمرة ألوانه.لأنّنا كلّما فعلنا حملنا على الشعور بأنّنا شركاء في هذه النعمة المبسوطة للجميع، فجرًا ومغربًا وعشايا، بثّ فينا الطمأنينة، ونحن نتأمل جمال العالم. وغمرنا بفضاء من السكينة، في مواجهة ما يتلاحق من أحداث الحياة. موقظًا فينا، من غفوته، التفكير بأنّه إذا كان المرئيّ، خلال شهوره، على هذه الدرجة من الجمال ، فكم بالحري يكون غير المرئيّ؟!