في حبّ شجرة

محسن أ. يمين
لا أعلم بالضبط ما الذي يجعلني أحبّ شجرة الحور هذه، دون سواها، مع أنّها قد تتساوى مع مثيلاتها تألّقًا الآن في الحلّة الخضراء الآيلة، عمّا قريب، إلى التلّون، والتساقط، واليباس. كما انّها تحاكيهنّ اصطفافًا كالعسكريّين، على الطرقات العامّة، الرئيسيّة.
بعيدة عن بيتنا. لا أنا تعهدّتها بالغرس، ولا بالريّ في طفولتها، ولا بالعناية وهي تشبّ، ولا بمواكبتها في مراحل عيشها، ونموها. ابنة الطريق هي. جزء من الملك البلديّ العامّ. لم تطلب يومًا صداقتي. ومع ذلك تثير في نفسي الفضول بمعانقتها للفضاء، وتجذبني إليها، اجتذاب العصافير.
وعندما أرخي لحالي العنان في المشي، أكاد لا أصدّق متى أبلغها، وألتقط لها صورًا. ولولا الحياء لكنت اطلب من أوّل من يجاريني مشيًا على الدرب، أن يصوّرني معها، وقربها. وأستعيد في ذهني كيف كان الإنسان القديم يقدّس بعض الأشجار ، لاعتقاده بأنّها ترفع الآلام، وتشفي الأمراض. وأكاد، في صيفها المولّي، أعانق جذعها الممسوح عليه بكدسات الخزامى المحتلّة الرصيف، بدلًا من أقدام العابرين، والناشرة أطيابها على كامل القامات الخضراء المطلّة على البيوت، والأديرة. على الفنادق، والجبال.
أحبّها في الفصول كافّة. أحبّها وهي تخيّم، في هذه الآونة، بأفيائها، رافعة أوراقها الوارفة عاليًا فوق الأرض، بعد امتداد يد قاسية بالبتر إلى الواطئ من أغصانها. فردّت بالانتقام لنفسها، وبدل أن يُغمى عليها ذعرًا، ربحت في الطول، والنحافة، ما خسرته في الامتلاء.
وأحبّها، وهي في أصفرها حين يتماوج وزرقة السماء التشرينيّة المنهكة بأشعة الشمس، مثيرة الدهشة بمنظرها الجذّاب، واندفاعها للبقاء، كيفما دارت الفصول، وتقلّبت أحوال الطقس.
وعندما يحين موعد عريها الشتائيّ تبدو جليلة القدر، وهي تشرع جبهتها للريح على فم الوادي، غير منحنية للعواصف التي لا تكفّ عن امتحان قدرتها على الصمود، والصبر، والحياة. فيما تدخل إلى خدرها الطويل، مغلقة الباب خلفها.
إلى أن يعيد إليها الربيع وقارها، وشاعريّتها، وهو يجدّد منحها رداءها الأخضر، بعد تعريض جسمها الأملس لأشعة الشمس. فتغبّ النسغ الراوي لأغصانها، وفروعها، في تنهّد، فيما ترتقي أعلى فأعلى، بفرح نحو الفضاء النشوان بالأزاهير.
ولا يبلغ الشوق إلى ما يبهج العين أشدّه إلّا متى مالت الشمس إلى المغيب، ووضعتها الشجرة على خصرها، دالقة الأصباغ على أشجار الدلب المحاذية، والعرائش، صفراء ذهبيّة، فبرتقاليّة محمّرة. في مشهد دائم التحوّل، مطلق للخيال. مشهد متى كان مجلّلًا بغلالة من الضباب يعطيك الانطباع، وأنت تراه، بأنّه خرج للتو من فردوس خارج الزمن، ويتداخل مع حياتك التي تعيش. فتقولها شجرة مجد الغروب.
والسؤال الذي لا أنفكّ أطرحه في سرّي على نفسي هو: هل تعلم الشجرة، من يوم كانت الشجرة، مبلغ ما تثيره فينا من مشاعر، وتبعثه في داخلنا من خلجات. وهل تتعمّد، وهي تشعر، بمداركها الخفيّة، بوجودنا، فتلاقينا بتمايلها في النسيم، وبأوراق ترتعش تهلّلًا حال وطء أقدامنا لجوارها، معبّرة عن اغتباطها بتناغمنا مع الطبيعة، والحياة، وانجذاب أرواحنا إلى كلّ ما هو جميل، وغير عاديّ.
قد تحمل على محمل المبالغة ذهابي بأنّ كلّ هذه الأحاسيس تنشأ عند رؤيتي هذه الشجرة التي تجعل المتعة الجمالية تدير رأسي، والانفعال يجري مع كلّ نبضة قلب.
وأنّني احيّيها مودّعًا متى حان أوان هبوطنا إلى مشتانا.