دولة تُدار بـ«البلاش»: هبة إماراتية لمكننة الإدارة العامة

دولة تُدار بـ«البلاش»:  هبة إماراتية لمكننة الإدارة العامة

منذ سنوات طويلة، تسبق الانهيار المالي والنقدي بكثير، أهملت الدولة اللبنانية - أو الأشخاص الذين أداروا المؤسسات العامة - كلّ ما له علاقة بالمشاريع الاستثمارية، ونأت بنفسها عن تحمّل أي مسؤولية في هذا المجال. على الأقل منذ تسعينات القرن الماضي، يُفضّل «حُماة الدولة» الاستدانة من الخارج أو طلب الهبات المجانية (شكليًا) لإنشاء مشاريع عامة، أي تلزيم شؤون المواطنين للخارج. ازداد هذا الأمر مع الانهيار عام 2019. تآكلت مؤسسات الدولة اللبنانية أكثر فأكثر من الداخل، وباتت الإدارة العامة تعيش على أنقاض جهازٍ منهك. تتكاثر المشاريع المموّلة بهباتٍ أجنبية، وخاصة منذ فقدان الثقة محليًّا وخارجيًّا بالنظام المصرفي والمالي المحلي وانهيار العملة. كلّ هذه الهبات والواهبين يدخلون من أبواب «التحديث» و«المكننة» و«الإصلاح الإداري». آخرها مشروع مكننة الإدارة العامة، الذي يُحكى عنه منذ ما لا يقل عن الخمس سنوات، وهو مموَّل هذه المرة كهبة من دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي يثير نقاشًا صامتًا في الكواليس حول ماهيته ومآلاته. الأكيد أنّ المشروع سيمرّ ويُنفّذ، من دون طرح الكثير من الأسئلة الوقائية والضرورية، لأنّ رئيس الجمهورية العماد جوزف عون «يطلبه شخصياً»، تقول مصادر مُطلعة على الملفّ. 

لماذا الموضوع حسّاس؟

من المؤكّد أن تحديث الإدارة العامة ومكننة هذه الخدمات خطوة إصلاحية، تُسهّل خدمات المواطنين، تُتيح المزيد من الرقابة والفعالية في إنجاز المعاملات، تحدّ من الرشاوى، وتُساعد في أرشفة البيانات العامة. إلا أنّ كلّ مشروع فيه تمويل أجنبي «مجانّي»، وتطبيق لبرامج إلكترونية تُتيح الوصول إلى كلّ المعلومات والبيانات الشخصية للمواطنين والدولة، يجب التعامل معه بكثير من التحوّط. فقد تتحوّل هذه المشاريع من مبادرات إصلاحية إلى مسّ بالسيادة الرقمية وبيانات المواطنين، وتسليمها إلى جهات ثالثة من دون أن يكون للبنان أي كلمة بالموضوع. لذلك، كلّ مشروع يُمنح على أساس «البلاش» يحتاج إطار قانوني واضح، إشراف حكومي مستقل، وضمان ملكية وطنية للبيانات، وإلا فإن الهبة تتحوّل تدريجًا إلى بوّابة نفوذ خارجي داخل مؤسسات الدولة. ما يستدعي الإضاءة على هذا الموضوع، هو الحماسة السياسية لقبول الهبة، والضغط لتمريرها من دون أي ضوابط. ويأتي ذلك بعد زيارة لوزير الداخلية، أحمد الحجّار إلى دولة الإمارات، طرح خلالها أيضًا على المسؤولين توليّ إدارة العديد من الخدمات العامة. 
 تُقدَّم الهبة اليوم على أنها دعم بلا مقابل، في لحظة عجز مالي شامل. لكن في دولةٍ انهار فيها الجهاز المالي، وتفكّكت مؤسسات الرقابة، يصبح السؤال مشروعاً: ما المقابل الفعلي لهذه الهبات؟ ومن يضمن أن لا تتحوّل البيانات الشخصية لملايين اللبنانيين إلى مادة متاحة لشركات أو حكومات أجنبية وجهات ثالثة؟

الهبة لتحديث الإدارة العامة تُطرح أيضاً في ما خصّ مكننة السجلات التجارية، وهو أحد مطالب مجموعة العمل المالي «فاتف» لإزالة لبنان عن اللائحة الرمادية للدول التي لا تأخذ إجراءات كافية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. بعد محاولة وزارة العدل، الحصول على هبة من جهات أوروبية عدة رفضت التجاوب قبل حلّ مسألة سلاح حزب الله والحرب مع إسرائيل، يبدو أنّ الهبة ستُقدّمها الدولة الفرنسية. في الحالتين، يغيب النقاش الأساسي: من يُراقب هذه الأنظمة؟ ومن يمتلك البيانات بعد تشغيلها؟ وهل يُسمح بحصرية مُعينة من دون فتح باب المنافسة بحجة أنّ الهبات لا نقاش عليها؟
 لماذا تُعطي الدول والمنظمات هِبات؟ الجواب في دراسة بعنوان «القوة الناعمة: كيف تُشكل المساعدات الخارجية المفاهيم العالمية وتؤثر على العلاقات الدولية؟» نُشرت في مجلة «العلوم الاجتماعية والإنسانية». فواحد من الأهداف أنّه «عبر المساعدات تبني الدول علاقات تبعية أو امتنان سياسي، ما يسهّل تسويق مصالحها الاقتصادية أو الدبلوماسية لاحقاً. التجارب تقول إنّ المانحين كثيراً ما يقيسون «العائد» السياسي والاجتماعي للهِبات، ليس فقط الفائدة التنموية». أما كيف يتم استخدام الهبات لتحقيق سيطرة أو توسيع النفوذ، فعبر أدوات عدة، ربط الهبة بإصلاحات سياسية أو اقتصادية تُخدم أجندة المانح. شرط أن يتم شراء المواد الأولية والبرامج من الجهة التي تُعطي الهبة. الاستحواذ على البُنى التحية الرقمية. العمل مع فرق فنية أو استشاريين يُسيطرون عملياً على تصميم وتنفيذ البرامج المُستخدمة، ويُحددون قواعد العمل. وعلى المدى البعيد، خلق اعتماد تقني على المانح، ما يُضعف قدرة الدولة على الإدارة مُستقبلاً.

يوجد تجارب سابقة في لبنان حول خروقات سيبرانية ومحاولات للسيطرة على البيانات الرقمية. لذلك، يجب ان يقترن قبول أي هبة خاصة تلك التي تفتح المجال أمام السيطرة على بيانات شخصية، بحماية صارمة للبيانات. وأن تنصّ الهبات على الملكية الوطنية للبيانات وخضوع الشركات لعقوبات قانونية في حال إساءة الاستخدام، مع وجود إشراف مؤسساتي لبناني مستقل. ولما لا الاستفادة من الخبرات الأجنبية، لبناء قدرات محلية تُصبح بديلًا مستقبلًا عن الاعتماد المطلق على الخدمات الأجنبية.

 

اقرأ المزيد من كتابات كافيين دوت برس