"بواب العتيقة": مفهوم الباب في الفكر الرحبانيّ من خلال المسرح (4)

"بواب العتيقة": مفهوم الباب في الفكر الرحبانيّ من خلال المسرح (4)

كنت قد نشرت في ملحق النهار، السبت 22 آب 1998، مقالة عن مفهوم الباب في الأغنية الرحبانيّة،  في هذه التتمّة عن صورة الباب في المسرح الرحباني اخترت ثمانية عشر عملًا بدءًا من عام 1960 إلى 1975، ما عدا واحدة هي مسرحيّة بترا التي عُرضت سنة 1977. حاولت فيها أن أقرأ مفهوم الباب وكل ما يتعلّق به أو يشير إليه. في الجزء الأوّل تناولت القراءة أربع مسرحيّات هي "موسم العزّ" وحكاية الإسوارة" و"جسر القمر" و"الليل والقنديل". في الجزء الثاني "بيّاع الخواتم" و"دواليب الهوا" و"إيّام فخر الدين" و"هالة والملك". في الجزء الثالث ألقيت الضوء على رمزيّة الباب والبوّابة في مسرحيّات "الشخص" و"جبال الصوّان" و"يعيش يعيش" و"صحّ النوم".

أمّا في هذا الجزء الرابع والأخير، فأتابع الرحلة بين الأبواب وعبرها في محاولة لفكّ الرصد عنها، محاولةً الاقتراب من الفكر الرحبانيّ الذي عن قصد أو عن غير قصد جعل الباب وملحقاته عنصرًا أساسًا في الأغنية وفي الحوارات المسرحيّة، على أمل أن يبقى باب الحوار مفتوحًا في المجتمع اللبنانيّ كما تمنّى الأخوان رحباني دائمًا. والمسرحيّات هي: "ناطورة المفاتيح"، و"ناس من ورق" و"المحطّة" و"لولو" و"ميس الريم" و"بترا". 

ناطورة المفاتيح

13- ناطورة المفاتيح (1972)

عنوان المسرحيّة بحدّ ذاته يحيلنا إلى فكرة الأبواب المقفلة. ومضمون المسرحيّة يدور حول مفاتيح البيوت التي تركها أصحابها بعهدة زاد الخير (فيروز) التي أبت مغادرة المملكة لترحل مع الشعب الهارب من الظلم. مع بدء المسرحيّة توصي زاد الخير جيرانها ببيتها بعدما صدر الأمر بسجنها لأنّها لم تدفع حصّة الملك: "يا جيراني...ضلّوا بغيابي طلّوا ع الدار/ على البوّابة وزهور الدار"، هذا الطلب سيتحوّل مع سير الأحداث إلى عكسه حين تصير بطلة المسرحيّة مؤتمنة على بيوت جيرانها. ثمّ نسمع زاد الخير تصف مملكتها، وهي مناقضة لمملكة الملك غيبون (أنطوان كرباج): "مملكة السهر والحاكم ع بابا / يستعطف المحكوم". 

وحين يقرّر الأهالي الرحيل، يقول بربر قائدهم (نصري شمس الدين) مبرّرًا القرار بتسكير البيوت: "وشو بعد فيه غير الرحيل؟... وخيل الحرس من كلّ باب تمدّ راسا وتختفي". فالباب هنا لم يعد مصدر أمان وحماية بعدما حاول العسكر اقتحام البيوت. لكن زاد الخير لا تقتنع وتعلن: "كلّو صحيح/ لكن أنا ما بفلّ/ عن باب بيتي". هنا نرى في وقوفها على الباب قوّة التحدّي والعزم، فهي لن تختبئ خلف الباب لأنّها تعرف أنّ موعد المواجهة آت. لذلك يأتي ذكر الباب مباشرة بعد ذلك في أغنية "طريق النحل": "أنا ومتكية ع بابي/ مرقت نحله بكّير". ومع انطلاق موكب المغادرين نسمع الناس يغنّون: "لمّا بيرسي مركب الليل/ على سطوح المدينة/ وبياخدني سفر الليل/ انطريني ع باب المسافة" ويضيف بربر واعدا البيوت بعدم نسيانها: "على بابك يا بواب الإلفة/ على بابك يا بواب/ ننقش صور الدمع ونحمل/ من حفافيكي تراب". 

عندما يعلم الحاكم برحيل الناس يسأل بغضب: "وين كنتو ما سكّرتو البواب؟ أيُكتب لهذا الملك التعيس أن يحمل كيسه ويندار يشحد على بواب الملوك". هنا يصير الباب رمز الأسر والسجن ثمّ رمز الذل والعار. وفي ظلّ هذا الوضع تبتهل فيروز: "بيتي أنا بيتك.../ نطرتك ع بابي وع كلّ البواب" في إشارة جديدة إلى مفهوم الانتظار والأمل المرتبطين بالباب.  لكنّ الأمر يتغيّر حين تعود الرعية ويخاطب الملك شعبه متوسّلًا: "لا تخلّوا الملك ينطر على البواب" وتسانده زاد الخير قائلة: "الملك جايي يزوركن/ عم بيدقّ بوابكن" ثمّ تغنّي "وصل الضيف وأنا على بابي". 

ناس من ورق

14- ناس من ورق (1972)

يغنّي سعد القوّال (نصري شمس الدين) في "زعلت حليمة": "بابي مفتوح وما بيسألو عنّي" ليظهر الباب من جديد وسيلة انفتاح على الخارج وخصوصًا على الحبّ.  وتقول المهرّجة (جورجيت صايغ): "الليلة خلصنا يا أهل الشبابيك"، ثمّ تنادي الناس: "طلّوا شوفوا طلّوا. اليلة ماريّا جايي تغنّي... للإنسان اللي راجع يدقّ ع بابو وما حدا يفتحلو. والحلوه اللي راحت والورد اللي بقي ع الشبّاك" وبعد ذلك تغنّي ماريّا (فيروز): "دقّيت طلّ الورد ع الشبّاك" ثمّ أغنية "يا أنا يا أنا" حيث تقول: "تركوا أساميهن ع الباب/ على كتب الدمع وراحوا".

ويظهر بعد ذلك شكّور (حنّا المعلوف) الذي يحبّ ماريّا ويسألها: "بتتذكّري ليلة اللي التقينا على درج البيت؟" (الدرج مرتبط بالباب). ثمّ تغنّي فيروز: (دقّوا المهابيج) "على باب الليل صوّت علينا الديب" (الباب هنا صورة شعريّة تعلن حلول الظلام). وأخيرًا يغنّي الحرامي (إيلي شويري) في أغنية قصقص ورق: "يا غنيّة زرقا وشبّاك انفتح ويلوّحنا/ ويمرجحنا/ ويشلحنا ع بواب الناس" حيث يجتمع الشبّاك والباب ليكونا علامة تلاقي تؤكّده فيروز في أغنية "إذا الأرض مدوّرة" إذ تقول: "نتلاقى ببيت/ بفيّة قنطرة" (القنطرة أمام الباب). 

 

المحطة.jpg 41.3 KB

15- المحطّة (1973)

المكان هنا محطّة قطار في سهل مزروع بطاطا. إذًا لا نتوقّع وجود أبواب. ومع ذلك فالحلم الذي جاء بالقطار لا يحتمل البقاء خلف الأبواب. وهذا ما نسمعه في أغنية "ليالي الشمال" حين تغنّي وردة (فيروز): "يا حبيبي وبحبّك ع طريق غياب/ بمدى لا بيت يخبّينا ولا باب/ خوفي للباب يتسكّر شي مرّة بين الأحباب". فالباب هنا حاجز بين حبيبين، قد يغضب أحدهما فيدخل إلى غرفة ثانية ويقفل الباب بعنف، أو يرحل مغلقًا الباب خلفه علامة اللاعودة. ووردة نفسها تقول في مناسبة أخرى: "واللي ناطرينو رح يدقّ الباب" في إشارة للأمل وانتظار الآتي. أمّا في قولها "عجّل وتعا/ السنة ورا الباب" فتذكير بمرور الوقت سريعًا وقصر العمر. وكان من عادة اللبنانيّين أن يدوّنوا تواريخ الولادات والوفيات والمناسبات على الباب من الداخل، وحين كانوا يتساءلون عن سنة معيّنة يقولون "السنة مكتوبة خلف الباب". ويختلف معنى الباب في قولها "شتويّه وضجر وليل وأنا عم بنطر على الباب"، وكأنّي بالمرأة هنا تردّ على طرفة بن العبد الذي كان يقصّر يوم الشتاء بامرأة "وتقصير يوم الدجن، والدجن معجب/ ببهكنة تحت الخباء المعمّد". فكلاهما ينتظر علاقة تصارع الضجر والشتاء والوحدة.

يؤكّد لنا الحرامي (أنطوان كرباج) فكرة الأخوين رحباني عن حريّة الحلم ولو في رؤية محطّة تحت حقل البطاطا، وذلك في قوله دفاعًا عن حبّه السرقة: "السرقة والحلم إخوة، تنيناتهن ضدّ البواب والحدود"، في حين يرد الباب في قول الشحّاذ (سامي مقصود) بصورته الواقعيّة لكن المفتوحة على التوّقع: "ممكن نقّر تنقير، نقّيلي باب مطعم حايد". 

أمّا قمّة التأكيد على مفهوم الباب في الأدب الرحبانيّ كمكان للانتظار والتواصل مع العالم الخارجيّ فنجدها في حوار وردة مع نفسها حين تغنّي: "ارجعي وانطري قدّام الباب/ احلمي واسهري قدّام الباب" كأنّي بالفكر الرحبانيّ لا يريد للمرأة أكثر من الحلم مع البقاء في حماية البيت قرب الباب. وربّما هذا ما جعل وردة لا تقطع تذكرة سفر لنفسها وبقيت على المحطّة. 

 

لولو

16- لولو (1974)

يسأل البويجي (نصري شمس الدين) لولو (فيروز) التي تبيّن أنّها بريئة من جريمة ألصقت بها وأطلقوا سراحها بعد خمسة عشر عامًا: "مبيّن مكتّرة المفاتيح". فتجيبه: "ضيّعت مفتاح البيت، استعرت مفاتيح الحبس" (باب البيت وباب السجن مفتاحهما واحد). ثمّ تغنّي لولو: "إنسى؟ كيف؟ والحبس وإيّام السهر/ مشتاقة للقمر/ وخلف الطاقة القمر" (الطاقة تؤمّن التواصل مع العالم الخارجيّ). وحين تهدّد لولو بقتل أحد الذين حاكموها وشهدوا ضدّها، تسأل إحدى النساء القاضي (وليم حسواني): "يعني كيف بدّك نفتح بوابنا وننام؟" في ردّ صريح من الأخوين رحباني على مقولة الرئيس سليمان فرنجيه الذي انتخب رئيسًا سنة 1970: ناموا وبوابكن مفتوحة. ثمّ تغنّي: "كانوا الخيّالي تلج وصهيل وخيل/ مارق ع باب الليل". قبل أن تتذكّر حبيبها نايف بو درع (جوزف ناصيف) قائلة: "هنّي وأخديني ع النظارة كان واقف عم يبكي، متكي ع الباب ويقلّي: ناطرك ت تخلص الدني" (الباب نقطة تحوّل وانتقال الى مرحلة جديدة). أمّا في حوار بين البويجي وزوجته (جورجيت صايغ)، فتقول هذه الأخيرة: "خايفة عليك تكون عشقان/ وداير ع بواب النسوان"، فيجيب البويجي: "عنّا ولاد وناطرين بالضحك بيتسلّوا/ ع البوابّة ناطرين يكبروا ويفلّوا"، فعند المرأة الباب رمز خيانة زوجها وعند الرجل يصير رمز الانطلاق نحو حياة أفضل. 

في أغنية "من عز النوم" يرد الباب رمزًا لمحاولة الانغلاق على الذات لكن في الحبّ يفشل الباب في مهمّته: "لمّا ع حالي سكّرت الباب/ لاقيتك بيني وبين حالي". وبعد لقائها بالحبيب السابق تقول متحسّرة وخائبة الأمل: "يا إيّام الحبس أنا عم إركض وإتطلّع من طاقاتك ع الدني". أما البويجي فيجد في فيء القناطر أمام الأبواب مكانًا لانتظار الحبيبة "وأنا ناطر بالقناطر/ والدني صيفيّة وشوب".

 

ميس الريم
17- ميس الريم (1975)

ساحة ميس الريم تزنّرها البيوت والأبواب والشبابيك والقناطر. يجلس كلّ من العاشقَين نعمان (إيلي شويري)  وشهيده (هدى حداد) إلى شبّاكيهما، ويخرج الناس من الأبواب إلى الساحة حيث يقيم السكران (جوزف صقر) والغريبة العابرة زيّون (فيروز) وحيث سيقع القتال بين أهل الحبيبين. وفي الساحة يقول أحد القبضايات في الفصل الثاني: "بترجع بتربطلو ع الباب (باب المستشفى) هوّي وطالع"، وتغنّي فيروز: يا سنين اللي رحتي ارجعيلي... وانسيني ع باب الطفوله/ ت أركض بشمس الطرقات". وتحت شبّاك شهيدة يقف الشاويش (وليم حسواني) يغنّي للعروس بالنيابة عن مختار المخاتير (إيلي صنيفر). 

تجدر الملاحظة إلى أنّ هذه المسرحيّة عُرضت مع بدء الحرب الأهليّة، وكان الرئيس سليمان فرنجيه رئيسًا للبلاد وهو القائل: وطني دائمًا على حقّ. وكأنيّ بالأخوين رحباني يردّان عليه بلسان المختار مخاطبًا راجي والد نعمان (نصري شمس الدين): بعدك يا راجي ملقطلي بالحقّ؟ تعيش وتاخد عمرو. وين بعد فيه حقّ؟"

بترا.jpg 42.98 KB

18- مسرحيّة بترا (1977)

المسرح الرحبانيّ له مكان واحد أساس هو الساحة. لكنّ الأبواب والشبابيك تشرف عليها وتشاركها البطولة: قد يخفت دور الباب في بعض المسرحيّات كما في مسرحيّة "بترا" حيث تغيب البيوت وأبوابها في ظلّ هيبة القصر الملكيّ، لذلك حين تغني الملكة شكيلا (فيروز) وتقول: "أنا على باب الشوق والريح يا ليل/ أنا على باب الرمل والعمر يا ليل"، يأخذ الباب منحى شعريًّا يصوّر جغرافية المملكة على حدود الصحراء، وشعور الملكة تجاه ذهاب الملك إلى الحرب. أمّا حين يسأل الضابط الرومانيّ لايوس (أندريه جدعون) الملكة قائلًا: "شو السياسة اللي خلّتكن تفتحوا ابواب خزنتكن لودايع الناس؟" فالصورة واقعيّة لا تحتمل التأويل. على عكس ما يصرخ به القائد الرومانيّ باتريكوس متسائلًا حين يشعر بهزيمة بلاده: "روما رح تركع ع بواب الصحرا؟ فالأبواب هنا مجازية وإن احتملت أن تكون أبواب مدينة بترا. لكن الأرجح أن يكون سؤال القائد الروماني يشير إلى هزيمة المدنيّة والحضارة أمام رمل الصحراء وبداوة المقيمين حولها.

في المقابل يصير الباب عنوان الأمل والانتظار عندما تغنّي فتيات المملكة قائلات: "رح تخلص الحرب ويرجعوا الأحباب/ والصبايا بيوقفوا كلّ مين على باب". ولكن حين تغنّي الملكة: "خدني يا حبيبي ع بيت ما لو بواب" يتحوّل الباب رمزًا للأسر والانغلاق تريد الملكة وهي أسيرة الواجب الوطنيّ أن تتحرّر منه. وبهذا المعنى يعود الباب ليظهر في قولها بعد خطف ابنتها بترا: "وزغيرة الأميرة وكبيرة البواب"، لنرى الأبواب ضخمة صعبة الاقتحام ورمزًا لحاجز يصعب على أميرة صغيرة أن تواجهه. لذلك يغنّي الوزير ريبال (نصري شمس الدين): "ل فتّش عليكي من بيت لبيت/ ل إشحد رجوعك من كلّ البواب"، فيعود الباب رمزًا للأمل بإيجاد الأميرة ولو تطلّب ذلك من الوزير أن يتحوّل من مسؤول إلى متسوّل على أبواب الناس.

اقرأ المزيد من كتابات ماري القصيفي