"بواب العتيقة": مفهوم الباب في الفكر الرحبانيّ من خلال المسرح (3)

"بواب العتيقة": مفهوم الباب في الفكر الرحبانيّ من خلال المسرح (3)

كنت قد نشرت في ملحق النهار، السبت 22 آب 1998، مقالة عن مفهوم الباب في الأغنية الرحبانيّة،  في هذه التتمّة عن صورة الباب في المسرح الرحباني اخترت ثمانية عشر عملًا بدءًا من عام 1960 إلى 1975، ما عدا واحدة هي مسرحيّة بترا التي عُرضت سنة 1977. حاولت فيها أن أقرأ مفهوم الباب وكل ما يتعلّق به أو يشير إليه. في الجزء الأوّل( كافيين دوت برس ( 11/10 تناولت القراءة ثلاث مسرحيّات هي "موسم العزّ" وحكاية الإسوارة" و"جسر القمر"، في الجزء الثاني(12/10 (  الليل والقنديل" و"بيّاع الخواتم" و"دواليب الهوا" و"إيّام فخر الدين". أمّا في هذا الجزء وهو الثالث، فسوف ألقي الضوء على رمزيّة الباب والبوّابة في مسرحيّات  "الشخص" و"جبال الصوّان" و"يعيش يعيش" و"صحّ النوم".

الشخص.jpg 33.78 KB

9- الشخص (1968)

المكان كالعادة في المسرح الرحبانيّ هو الساحة، وهنا هو سوق البيّاعين الذين يغنّون: "واسع بابك واسع/ شمس المطالع باب الواسع" في إشارة إلى عطايا السماء. ثمّ نسمع الشاويش (وليم حسواني) يقول: "الناس البسطا القاعدين ع البواب" كأّن الأبواب هي وسيلتهم الوحيدة لإقامة علاقة مع العالم الخارجيّ. وتغنّي بيّاعة البندورة (فيروز): وعلى باب السهرة تبكي المواويل" في إشارة إلى نوع الغناء الذي نسمعه من هذه الطبقة الشعبيّة الفقيرة. ويعود الباب ليظهر عندما يُحكم على البنت البيّاعة التي غنّت أمام "الشخص" (أنطوان كرباج) وخربطت الاحتفال: "على باب المحكمة واقف حارس". لكنّ البنت البيّاعة تدعو إلى الثورة على الظلم: "واللي ع البواب يطلعوا من النوم/ يكسّروا البواب ويتهبّط النوم". الفكر الرحباني يتطرّف هنا في النظرة إلى الانتظار على الباب ويدعو إلى الانتفاضة عليه والاستفاقة من غيبوبة الترّقب. وهذا ما يؤكّد عليه موقف البيّاعة حين تواجه الظلم الذي اعتبر أن الناسَ أساس الملك وعليه تحمّل ثقل البناء: "ولا بدّ هالأساس ما يشلّع التراب/ ويزعزع البناية/ والحيطان والبواب". وعندما يصدر الحكم ببيع عربيّة البندورة بالمزاد العلنيّ، تودّعها البنت قائلة: "إنتي وأنا درنا ع كلّ البواب" لتصير الأبواب هنا مصدر رزق وحياة برغم التعب والقهر. 

تبقى ثلاث مشاهد تحضر فيها الأبواب في هذه المسرحيّة، واحد في مشهد الكنّاسين حين يغنّي وكيلهم عن مغامرات عملهم على الطرقات ويصف الصبيّة التي كانوا يراقبونها، وتعود فيه للباب وظيفة التواصل مع الخارج والآخر: "تبقى تكنّس قدّام الباب/ وتضحك ضحكة حلوة/ وهيي بتكنّس قدّام الباب/ وتحكي قصّة لحالا/ وإتذكّر الحلوة على باب الدار". والثاني في قول المتصرّف (نصري شمس الدين) وهنا الباب حاجز: "أنا باب. باب سميك بيقعدوا خلفي وبيصيروا يسكّروني بوجّ الناس". أمّا الثالث ففي أصوات الناس مع بدء جلسة المحاكمة حين يقولون: "مولانا القاضي نجمة باب الودايع/ سيف الحقّ المسنون" (علامة على انصياع الناس وخضوعهم للسلطة). 

 

جبال الصوّان.jpg 25.78 KB

10- جبال الصوّان (1969) 

في الفكر الرحباني برتبط الباب عمومًا بالمنزل، وإذا ذُكرت البوّابة فللدلالة على مدخل الحديقة أو مكان العبور إلى الدار الكبيرة. أمّا في "جبال الصوّان" فهي بوّابة الوطن. هي الحدود الفاصلة بين العدل والظلم وعلى هذه البوّابة قُتل مدلج قيدوم جبال الصوّان، وعليها ستُقتل ابنته غربة (فيروز) بعدما حرّرت الناس من الخوف فانتصروا على فاتك المتسلّط (أنطوان كرباج). بدءًا من المشهد الأوّل نرى الهزيمة مرتبطة بهذا الرمز "ووصل الهاجم ع البوّابة"، يصرخ الرجال. ويعلن فاتك انتصاره قائلًا لمدلج وهو يمعن في إذلاله: "ما عاد فيك تقاوم... افتح البوّابة بإيدك، واعزمنا نفوت". ويأتي دليل الهزيمة حين يخبر سعد (محمّد السرّاج) زعيمه مدلج: "واللي هرب هرب وترك بوابو مفتوحة" (علامة الخوف والسرعة في الهرب). لكنّ مدلج لا يهرب ويتحدّى فاتك المتسلّط: "مش رح إترك البوّابة". وبعد أعوام على  حكم فاتك، يتذكّر شهوان (إيلي شويري) الذي صار مخبرًا للعهد: "مدلج قِتل ع البوّابة وأخدو العشب". فتجيبه حنّة الساحلانية (نوال الكّك): "أهلي إجو لهون، وسكنوا هالأرض، وحاربو مع أهل مدلج. جدّو الأوّلاني مات ع البوّابة. وبيّو لمدلج مات ع البوّابة. ومدلج... تكي راسو ع البوّابة". وتتابع نقلًا عن الرعيان: "قال إنّو سليلة مدلج مندورة للبوّابة". 

مع عودة غربة من الغربة، تتجدّد قصّة النذر وتعلن حنّة مؤكّدة هويّة البنت العائدة: "مكتوب ع جبينا قصّة البوّابة". وتأكيدًا على هويّة الفتاة يخرج سعد من منزله الذي لم يغادره منذ قُتل مدلج، "عشر سنين بلياليها مسكّر شبابيكو" (هنا تصير الشبابيك المقفلة علامة الحزن والحداد). ويقول عبدو الروندي (نصري شمس الدين) لغربة: كنت ناطرك طول هالسنين ت إفتح الباب وإضهر لاقيكي" (رمزًا لانتظار فجر الأمل). فيهتف الجميع: "انفتحت البواب لما رجعت غربه. تشرّعوا شبابيكنا وانفتحت البواب" (تحقيق الحلم وعودة الأمل). ويعمّ الفرح وتغنّي غربة: "يا جبال يلّي الهوا شبّاكك العالي" (رمز المجد والسموّ) و"جايي جايي/ وتكي ع الباب/ يحكي عتبو للأحباب" (رمز لقاء الأحبة). وفي أغنية وطني تقول غربه: "أنا على بابك قصيدة كتبتها الريح العنيدة"، و"جيراني بالقنطرة تذكّروني" (القنطرة أمام باب البيت تظلله وتحميه من الشمس والمطر).

يعلم فاتك بعودة غربة. يقول لها القائد الختيار: "جدّك الكاسر كان. ضربة سيفو تقدّ الصخر. وانتهى ع البوّابة"، ويضيف ديبو (جوزف ناصيف): بيّك... وانتهى ع البوّابة". لكنّ غربة لا تخاف وتعلن انطلاق عيد العنب وتغنّي فيه: "ورجعت ع القناطر نجمة العشّاق" (علامة الفرح والأمل بحياة جديدة)، و"قناطر مضويه وبراج عم بتميل" (الضوء علامة النور والفرح). ومع عودة الأعياد والفرح، نقل شهوان (إيلي شويري) لفاتك صورة عن الوضع الجديد: "وعيوا يا مولانا... كانوا مسكّرين، فجأة وصلت، فتحوا بوابن. وعيوا وعيوا"، فالأبواب المفتوحة علامة وعي ومواجهة.

ولأنّ غربه تعرف ما ينتظرها تبتهل في أغنية "يا نبع الينابيع": "وعيون المقهورين سهرانه ع البواب"، وتطلب أن تكون "قصّة الموعودين/ قنديل التعبانين"، وفي أول عرس يقام بعد عودتها تغنّي: بطلب تضلّك سعيده/ معزّزة يا دار/ وبوابك مشرّعة/ والحب راعيكي". نلاحظ هنا كيف تغيّر مفهوم الأبواب المفتوحة بين أوّل المسرحيّة حين هرب الناس وتركوا بيوتهم، وكيف شرّعوا الأبواب الآن للفرح والحبّ. ثمّ تغنّي غربة للعروسين: "تتبارك حجار البيت/ تتبارك العتبة"، فحين يتبارك الحجر والباب تحلّ البركة في البيت كلّه.

ومع احتدام الأمور، وأمام خوف الأهالي من فاتك، تحاول غربة تشجيعهم فتسأل سعد (محمّد السرّاج): "بهاك الليلة، هوّي وبيي ع البوّابة، والسيف قبال عيونو. خاف؟". ثمّ تدبّ الحماسة في قلوب الناس ويعلنون: "لغسل الشماتة عن وجّ البواب، ولأجل البيوت، وتراب البيوت، قرّرنا نموت". وعند لقائها بفاتك الذي يهدّدها تقول له عن الناس: "فتحوا شبابيكن/ شمسن ما عادت تغيب". وحين يهدّدها بالحرب والموت تجيب: "أنا غربه بنت مدلج، مطرح ما وقف بيي، بوقف ع البوّابة حتّى أوفي الندر". 

من الواضح أنّ مفهوم الباب في هذه المسرحيّة أكثر وضوحًا ممّا هو عليه في سواها، ومردّ ذلك إلى موضوعها الوطنيّ الذي جعل البوّابة أكبر من مجرّد باب لبيت، أو بوّابة لحديقة. صارت حدود أرض يتقرّر عندها مصير الوطن ومستقبل أبنائه.

 

يعيش يعيش

11- يعيش يعيش (1970)

لافت ومتوقّع غياب الباب في مسرحيّة "يعيش يعيش". فالمكان هو الدكّان المفتوح على الساحة، وشخصيّات المسرحيّة مهرّبون لا يلجأون إلى البيوت، وإمبراطور لاجئ إلى دكّان لا يقفل أبوابه في وجه أحد، تعمل فيه هيفا (فيروز) مع جدّها بو ديب (نصري شمس الدين). ومع ذلك تجلس هيفا أمام الدكّان وتغنّي كأنّها تصف نفسها: "يا رايح ع كفرحالا/ امرق بسوق العنّاب/ فيه بنت بتنسى حالا/ هيي وعلى هاك الباب"، الباب الذي صار محطّة انتظار لحلم يحملها إلى حيث الحبّ وهي المرتبطة بحكايات الجدّ والعجائز والمهرّبين غير المستقرّة حياتهم.

صح النوم

12- صحّ النوم (1971)

في انتظار أن يصحو الوالي (أنطوان كرباج) من نومه مع اكتمال البدر، تقف قرنفل (فيروز) أمام القصر مع المنتظرين حاملة المظلّة كبديل عن سقف بيتها الذي سقط. وبسقوطه غاب دور الباب، إذ صار السقف هو القضيّة والمطلب. وحين تغنّي: "ع الباب اللي ما إلو باب/ قالو انطروا انطرنا" (أغنية مين ما كان بيتمرجل علينا) نرى مجرّد إطار لباب ولكن بلا "درفتين"، ومع ذلك لا يمكن تجاوزه كأنّ هيبته كافية لفرض وجوده. 

ويعود الباب ليأخذ دور التواصل مع الخارج والحلم بالحبّ مع أسعد (جوزف ناصيف) حين ينهي أغنيته (يا مدللة) قائلًا: "ع بابك الزنبق عِلي/ قومي افتلي واتْشكّلي". ثمّ يتحوّل بشقوقه وسيلة تسلّل إلى قصر الوالي لتحقيق العدالة، حين تقرّر قرنفل الدخول إلى غرفة الوالي النائم لختم عريضة ليلى (هدى حدّاد): "بطلع ع القصر من بين شقوق البواب بفوت. متل الليل بفوت. متل الهوا بفوت". وينتهي الفصل الأوّل من المسرحيّة بأغنية لفيروز تصف فيها خوفها من عاقبة سرقتها الختم وكيف أنّ الناس يراقبونها شاكّين بأمرها، وفي الأغنية:  "وعينيهن شمس/ غابت الشمس/ نزلوا على الليل/ فاتوا ع البيوت/ سكّروا البواب/ وعينيهن شمس/ وأنا مرميّه ع الزمن الغريب". فيأخذ الباب هنا معنى الأمان والحماية في حين هي البلا سقف أو بيت مرميّة حيث التيه والضياع.

وفي الفصل الثاني من المسرحيّة، وبعدما ختمت قرنفل معاملات الناس و"عمرت المدينة" تتحوّل الأبواب المفتوحة علامة بهجة، فيغنّي الوزير زيدون (نصري شمس الدين): ويا بواب المدينة/ خديني وجيبيني/ وسألنا شو القصّة قال/ سيف الفرح جايي".

(يتبع جزء رابع وأخير) 

 

اقرأ المزيد من كتابات ماري القصيفي