"بواب العتيقة": مفهوم "الباب" في الفكر الرحبانيّ من خلال المسرح (2)

"بواب العتيقة": مفهوم "الباب"  في الفكر الرحبانيّ من خلال المسرح (2)

كنت قد نشرت في ملحق النهار، السبت 22 آب 1998، مقالة عن مفهوم الباب في الأغنية الرحبانيّة، أتابع في الجزء الثاني من هذه القراءة (الجزء الأوّل نشر البارحة) الإضاءة على صورة "الباب" في المسرح الرحبانيّ من خلال ثمانية عشر عملًا، بدءًا من عام 1960 إلى 1975، ما عدا واحدة هي مسرحيّة بترا التي عُرضت سنة 1977. 

لا بدّ من التذكير بأنّ فكرة الباب جزء أساس من المكان المسرحيّ - ولو لم ترد الكلمة في حدّ ذاتها - إن بمعناها الحقيقيّ أو المجازيّ. فللبيوت أبواب وأسطح ونوافذ وشبابيك وقناطر وطُوَق وأدراج وسلالم وعتبات... وكذلك للحبّ والسهر والليل والسفر والفرح والظلم والعدل... وفي كلّ ذلك يبقى الباب المفتوح مفتوحًا على كلّ الاحتمالات، والمقفل رمزًا للبحث عن الأمان إن نظرنا إليه من الداخل، وللخطر والرحيل إن نظرنا إليه من الخارج.

في الجزء الأوّل قرأت رمز الباب في مسرحيّات أربع هي "موسم العزّ" و"حكاية الإسوارة" و"جسر القمر" و"الليل والقنديل". وفي هذا الجزء أفتح الباب على الباب الرحبانيّ في مسرحيّات "بيّاع الخواتم" و"دواليب الهوا" و"إيّام فخر الدين" و"هالة والملك"، على أن أتتّبع، في جزئين آخرين، رموز "الباب" في مسرحيّات أخرى. 

بيّاع الخواتم

5- بيّاع الخواتم (1964)

يظهر الباب مع بداية مسرحيّة "بيّاع الخواتم" في أغنية ريما (فيروز): "ع عتاب البواب/ الإبّر عم بتحيّك/ تحيّك تكّاية/ وتحيّك حكاية" (ارتباط الحياكة بالحكاية). صورة المرأة غازلة الصوف أو حائكته، وكذلك تلك التي تكنس أمام الباب، تكثر في الفكر الرحباني. وهي في جلوسها أو عملها على العتبة تعرف أنّها ستكون عرضة للأعين والأقاويل، بمثل ما تكون على تواصل مع الجيران والحبيب، لذلك تتابع في الأغنية: "والإبر مسنونة/ والعيون مسنونة" لأنّ "الحسد ع الطريق/ الحسد عم بيزهّر".

يتجدّد ارتباط البوّابة بالحب مع الاستعداد لعيد العزّابة: "ولو جانا متلك عريس/ ما منفتحلو البوّابة"، البوّابة نفسها التي تحضر مباشرة في أغنية "إمي نامت ع بكّير": "وسكّر بيي البوابة/ وأنا هربت من الشبّاك/ وجيت لعيد العزّابة". فتسكير البوابة بهدف الحماية لم يمنع الفتاة الحالمة بالحبّ من الهرب من الشبّاك للمشاركة في العيد بالغابة، حيث يغنّي المشاركون: "ويا قفاص المحبّة/ رح بتصيري بيوت/ تشعشع المحبّة/ ع بوابك وتفوت". وبقدر ما تشعشع المحبة على الأبواب، قد تصير هذه الأخيرة متنفّسًا للرجال حين تقع المشاكل الزوجيّة: "ونتقاتل مع النسوان/ ونلمّ علينا الجيران/ ونولّع سيكارة/ بضهر السيكارة/ ونقعد على الباب نقول: يا ريت ما تزوّجنا".

وفي أغنية يا حجل صنين، وصف للباب المشرف على العالم: "بيتهن ع مطلّ هاك القاطع/ ع الدني بيهلّ بابو واسع". وفي أغنية "الشغّيلة" عن شقّ الطرقات: "بدنا الطرقات نفتحها/ واسعة باب مشرّع" (الطريق باب واسع)، وتستعيد ريما ابنة أخت المختار (نصري شمس الدين) العبارة نفسها في أغنية "صحّة وصحتين وعوافي": بدنا الطرقات نفتحها/ واسعة باب مشرّع". 

في الفصل الثاني، وفي سهرة الضيعة، يغنّي الشاويش (وليم حسواني) ل مَي (هدى حدّاد): "إنتي أكبر سرّاقة: لمّا شفتك بالطاقة/ شلحتي اللفته الحرّاقة/ وسرقتي قلب الشاويش" (الطاقة وهي نافذة صغيرة تؤمّن التواصل الخجول). وتغنّي ريما عن "دراج الحكي" ويصف راجح (جوزف عازار) أهل الضيعة قائلًا: شبابيكن حيطان/ وبوابن حيطان" (علامة الصمت والكتمان والخوف من الغريب).

 

صباح ودواليب الهوا

6- دواليب الهوا (1965)

يغيب الباب في الفصل الأوّل من مسرحيّة "دواليب الهوا" وكانت بطلتها صباح، ويحضر في الفصل الثاني، "منضلّ ع بواب الليالي نلتقي" (في صورة مجازيّة) و"ون حيّدو علينا يا حلو/ وكنّا على الشبّاك ملهيين/يا خوفنا إنن يقوموا يسألوا/ مع مين طوّلتو الحكي مع مين؟" (يلعب الشبّاك دور الباب فيصير ملتقى العشّاق).

وتقول نجمة (سهام شمّاس) لفهد العابور (نصري شمس الدين) عن الفتاة/الحلم: "بتكون ع بابك الزهرة مولدنه/ بتمدّ إيدك ما بيطلعلك جَني/ وصدفة بيمرق حدّها واحد غريب/ بتلحقو ع آخر شطوط الدني". 

وحين يقرّر بيّاع دواليب الهوا (إيلي شويري) متابعة السفر على الطرقات يبرّر قراره قائلًا: "اشتقت لدني شبابيكها جديدة". أمّا مخّول (منصور الرحباني) فيتحوّل الباب معه حاجزًا: "حبسوني بهالسراج/ متل القاعد بكاراج/ ما إلو بواب ولا دراج". وتعود صورة الباب المجازية المرتبطة بالليل مع فهد العابور: "نحنا ع باب الليل سهرانين"، ثمّ يغنّي: "بيتك طالل قدّامي/ وما بستهدي ع بابك".

إيّام فخر الدين

7- إيّام فخر الدين (1966)

تبثّ عودة الأمير فخر الدين إلى لبنان فرحًا وتفاؤلًا، فيغنّي الناس: "علّوا البواب الوسيعة/ الدار جيناها" ما يجعل الأبواب العالية المفتوحة (أبواب المدن) رمزًا للأمان. ففي ذلك الزمن كانت الأبواب الجانبيّة الصغيرة الواطئة دليل خوف وطلب حماية إذ لا يمكن للفرسان الدخول عبرها. ثمّ تغنّي عطر الليل (فيروز) أغنية دبكة لبنان وفيها: "خطروا الأصايل يرمحوا/ وصلوا ع باب الساحة.../ طلّ من غياب وتطلّع/ وارتجّ الباب وتشرّع". وفي تشريع الأبواب على الساحة تأكيد على جو الأمن والسلام الذي أشاعته عودة الأمير فخر الدين (نصري شمس الدين) الذي يصف والد عطر الليل العسكريّ عبّاس بقوله: "وعطر الليل بنت العسكريّ عبّاس/ اللي ناطر ع باب الليل". وهي صورة مجازيّة تتكرّر وتصوّر هنا دور الحراسة والسهر على الأمن في محيط يعادي الأمير، ولا يعرف العسكريّ الحارس ما ينتظره خلف الباب وخلف الليل. 

أمّا عطر الليل التي نذرت نفسها لخدمة الوطن، فتقول لأمّها معلنة تلبيتها الواجب: "يا إمّي لا تنطري قدّام البوّابة"، ثمّ تؤكّد على إيمانها بقضيّة يعمل من أجلها الأمير: لروح بين الشمس والفيّه/ وبواب حلوة تشرق عليي" في تصوير لفرح الأبواب والبيوت وأهل البيوت بزمن حريّة آت، وانتشار أواني الزهر أمام الأبواب دليل حياة وأمل. وبدل بوّابة البيت صار لعطر الليل أبواب كثيرة تنتظرها كي توصل إلى أهلها البشرى بوطن جديد مستقلّ. 

      

هالة والملك
8- هالة والملك (1967)

من جديد يحضر الباب في المسرح الرحبانيّ، حتّى ليظنّ المتتّبع أنّ الأمر ليس عفويًّا وإن بدا كذلك. وليس الأمر بغريب إن راقبنا ورود كلمة الباب في الأمثال الشعبيّة. ففي مسرحيّة "هالة والملك" يأخذ الباب معاني مجازيّة لافتة فضلًا عن معناه الحقيقيّ، ففي عيد الوجوه المستعارة، تقول أمينة الخزنة (سهام شمّاس) عن الفأرة التي تتتكّر بوجهها: "بتتزّه بين اللعب/ بتنام بقفل الباب"، ويصرخ الجميع وهم في انتظار الأميرة التي تنبّأت النجوم بوصولها: "انطروا ع بواب المدينة/ العروس اللي جايي". وحين تصل هالة (فيروز) التي يُظنّ أنّها العروس المنتظرة، تقول: "حرّاس المدينة/ قالوا صار غياب/ هدموا قصر الزينة/ سكّروا ميّة باب". أمّا سهريّة (هدى حدّاد) التي أحبّت هالة واستقبلتها في بيتها فقالت واصفة وصول هذه الغريبة: "من بواب الليل/ بيجوا الغربا". 

وحين تصف هالة بيتها تقول: "بيتنا بوابو/ مشقّقها الزمان" (من جديد يرتبط مرور الزمن بالأبواب). أمّا أهل الحيّ الشعبيّ: "نحنا بيوتنا/ بوابها واطيه... لا الشمس ولا القمر بيفوتوا يزورونا" (انخفاض الأبواب رمز الفقر). ثمّ تتابع هالة وصف حياتها في بيتها بقريتها "درج الورد": "مسمّرة ع خشبة الشبّاك / عيني على الشبّاك" (الشبّاك بديل الباب محطّة انتظار وحلم). ويتجدّد ارتباط الطبقة الاجتماعيّة الدنيا بحجم الأبواب عندما تسأل سهريه المستشار: "حضرة مستشار الملك/ قدّام هالباب الزغير؟"

ترفض هالة خداع الملك ولا تقبل أن تكون عروسه، وتسأل الناس والحاشية وكلّهم يحاول إقناعها بلعب دور الأميرة: "والحبّ يا ناس...ما إلو بيت بسيلينا؟ مش عايش ع شي باب؟" (من جديد الباب مكان لانتظار الحبّ)، لذلك تقول في أغنية شايف البحر شو كبير: "يا مصوّر ع بابي/ ومصوّر بقلبي"

وحين يريد الملك (نصري شمس الدين) معرفة حقيقة ما يجري يتبادل الثياب مع الشحاد (وليم حسواني) الذي يقول له في تعبير جميل يصف تعاسة الحكّام: "بس الملك ما إلو مستقبل/ واقف ع الباب الأخير/ ع الباب المسكّر". وعندما  تلتقي هالة بالملك وهو في ثياب الشحاد تذكّره بفقر الناس عبر وصف أبوابهم المنخفضة: "الملك ما بيعرف شو فيه بالبيوت الفقيرة، بوابها واطيه والملك ع راسو تاج ما بيقدر يوطّي راسو". وتنتهي المسرحيّة بعودة هالة إلى قريتها وهي تغنّي: "بكرا بقعد ع بابي وبحكي القصّة لــ صحابي" (الباب مكان التواصل مع الخارج، مع ارتباطه بالحكاية).

 

اقرأ المزيد من كتابات ماري القصيفي