بعلبك الهرمل : لوحة اجتماعية سوداء لا بنى تحتيّة ولا مقوّمات حياتية

بعلبك الهرمل : لوحة اجتماعية سوداء لا بنى تحتيّة ولا مقوّمات حياتية

يُشبِه الساكن في قرية من قرى بعلبك الهرمل ذلك الجالس في أرض عراء لا سقف فوق رأسه يقيه من المطر شتاء" أو الشمس صيفا" او الكوارث الطبيعية في كل الفصول. يَحار المرء من أين يبدأ الكلام عن الحرمان في هذه المنطقة. من لا يملك ثمن نظام طاقة شمسية فمحكوم عليه بالعيش في الظلمة، في إنتظار مشاريع الكهرباء الموعودة للدولة منذ عقود. ومن لم يستطع الحصول على رخصة حفر بئر إرتوازي او سمحت له حالته المادية بالحفر، إن إستطاع إلى ذلك سبيلا، مات رزقه من العطش، وبالكاد يروي عطش عائلته من خلال شراء المياه الصالحة للشرب.

" هذه حالة كل لبنان مع الخدمات لكن عندنا اجتمع ظلم الدولة والجغرافيا علينا سويًا". يقول علي نصرالدين من مدينة الهرمل التي تعج بالنازحين السوريين وبالتحديد من أبناء الطائفتين الشيعية والعلوية الذين هربوا من الأحداث السورية الأخيرة مما شكل اعباء" إضافية على البنى التحتية المهترئة أصلا" من كهرباء ومياه وصرف صحي. ولولا جهود بعض الجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية لكان الوضع أسوأ بما لا يقاس من الآن".

في الطريق من بريتال إلى بعلبك إلى القاع عليك بتركيب أجنحة طائرة إذا أردت أن يحالفك الحظ بعدم الإصطدام بسيارة أخرى أو جدار أو تحطيم سيارتك بسبب المطبات العشوائية التي تغزو تلك الطريق الدولية. وكاتب هذا المقال كان أحد ضحاياها. فكل صاحب محل أو منزل أو كيوسك يخطر على باله وضع مطبّ، ما عليه سوى أي يأتي بقليل من الباطون ويضعه في منتصف الطريق، غير آبه بأي من أجهزة الدولة الأمنية أو الإدارية. ورغم مناشدة الكثير من الأهالي للدولة بإزالة هذه العوائق التي تخاطر بحياة الناس، إلا أن الإستجابة لم تتعدّ بعض القرارات لمحافظ بعلبك الهرمل بشير خضر وآخرها منذ حوالي الأسبوع والتي تبقى حتى هذه الساعة حبرا" على ورق.

 يعزو البعض تكاثر هذه المطبات في مرحلة معينة إلى تسهيل عمليات سرقة السيارات التي إنتشرت كثيرا" في فترة ليست بعيدة. ورغم الاعتراف بتراجع هذه الظاهرة نتيجة الحرب السورية وبالتالي إقفال هذه السوق والمعابر أمام هذه التجارة غير المشروعة التي كانت تدّر أرباحًا طائلة ونتيجة تشدد الجيش اللبناني في مكافحة هذه العصابات بعد الحرب الأخيرة،  إلا أن العوائق الإسمنتية والإسفلتية بقيت. وفي كثير من الأمكان تم قَصِّها لتسهيل مرور سيارات الاسعاف في الحرب الاخيرة".

مطبات في بعلبك

الاتصالات المعدومة

" آلو معلم ، لو سمحت بدي ... " وينقطع الخط وبَصِّر شو بدهن !!" يمازحنا نخلة صاحب إحدى المؤسسات الغذائية في بلدة الجديدة، وهو يعتمد على ايصال الطلبيات إلى المنازل. وعندما تسأله عن الدولة ومشاريعها لتحسين خدمة الإتصالات يضحك طويلا" ويعقب " دولة شو ومين عنا هون يا عمي ، من زمان عم بيقولو بدها تزورنا، وبعدنا ناطرينها".

لا يمكن لعابر على هذه الطريق أن يكمل إتصاله فتلك ستضاف حتما" إلى عجائب الدنيا السبع . يعزو  مصدر في وزارة الاتصالات في حديث الى "كافيين دوت برس" السبب إلى الأزمة الاقتصادية التي عصفت في لبنان والتي أدت إلى تراجع اعمال الصيانة وتوقف العديد من اعمدة الإشارة والربط، وإلى تضرر عدد من هذه المحطات نتيجة الحرب الاخيرة، والى السبب الدائم المتمثل في انقطاع الكهرباء الذي أستعيض عنه بتركيب نظام الطاقة الشمسية للبعض منها، وقد توقف بعضها أيضًا، ولم يتم إصلاحه". ووعد بخطوات قريبة تشمل الصيانة والتجديد في عهد الحكومة الجديدة إضافة الى ادخال شركة جديدة للمنافسة وتحسين جودة الإتصالات والانترنت التي أصبحت الفضاء الأساسي للأعمال والحياة الاجتماعية للناس.

استشفاء وتربية: الخاص بدل العام

الواقع الاستشفائي والتربوي ليس بأفضل حالًا ولكنه بجهود مؤسسات خاصة، تحاول التعويض عن ضعف الدولة. فتحضر مدارس تتبع للرهبان والراهبات ومدارس المهدي التابعة لحزب الله . وتحضر مؤسسات صحية تابعة للأحزاب كمستشفى البتول ومستشفى دار الأمل .

 " نحن نلامس  حاجات  الناس ومن  كل  الفئات من خلال العيادة  النقالة وتوزيع الادوية المزمنة بالإضافه للفحوصات المخبرية ومساعدات مرضيه ، كما وندفع  مبلغا  محددًّا للحالات الطارئة عبر تقديم طلب مع  المستندات الطبية، مساعدات  مالية  ببرامج  محددة  لعائلات ذات  طابع  خاص كالأمراض المستعصية وحالات اليُتم  إضافة" لمساعدات عينية لعائلات كبيرة  دون  دخل". والكلام لرئيس مكتب كاريتاس في بلدة القاع حكمت عاد . 

تحاول هذه المؤسسات الكنسية والاجتماعية في منطقة بعلبك الهرمل سدّ احتياجات عشرات العائلات المحتاجة التي تلجأ إليها ولكنها تشكو أيضًا من ضعف الموارد وعدم إلتفات الدولة إلا من خلال الإستجابة المقبولة بالحد الأدنى لوزارة الشؤون الاجتماعية عبر البرامج التي تُعنى بالأسر الأكثر فقرا" او ذووي الاحتياجات الخاصة  .

 إحدى العاملات في برامج الوزارة بالمنطقة بَدّور التوم تقول" أن معدلات الفقر في المنطقة تزيد عن غيرها من المناطق مما يشكل عبئًا إضافيًّا على مشاريع الوزارة ذات التمويل المحلي المحدود والدولي الضعيف".

عرسال تشكو

إلى عرسال التي تحولت في فترة من الفترات من مقلع للصخر إلى موقع لجبهة النصرة وداعش مما أوصل لمعارك وحرب فجر الجرود ، المشهد اليوم ليس بأفضل حالًا.فالبلدة التي تعتبر من الأكبر مساحة في لبنان لم تتحسن ظروفها بعد إندحار الجماعات الارهابية من جرودها أو سقوط النظام السوري العام الماضي. التهريب جزء أساسي من حياة أبناء عرسال ولكنه اليوم أقل مردودًا. المخيمات السورية لا تزال منتشرة بكثرة وعملية العودة لم تصبح بالشكل الذي يسمح بإعتبارها عودة كبيرة للاجئين السوريين ، هناك بعض الجمعيات التي لا تزال تعمل والبعض الآخر توقف نتيجة توقف التمويل وخصوصًا، بعد قرارات الرئيس الاميركي دونالد ترامب بسحب تمويل وكالة التنمية الاميركية USAID التي كانت تمول عددا" كبيرا" من هذه الجمعيات".

وفق تقرير مفوضية الامم المتحدة للاجئين فإن دخل الأسر في بعلبك الهرمل أقل بكثير من باقي المحافظات ورغم تمتعها بتراثًا تاريخيًّا ضخمًا، يفترض أن يشكل رافدًا سياحيًا كبيرًا لها. إلا ان الموانع الامنية وسيطرة اللون الواحد على المنطقة لا تزال تشكل العائق الأكبر أمام هذا الأمر فالكثير من السفارات تصدر تعاميم داخلية إلى موظفيها ورعاياها بتجنب زيارة هذه المنطقة. في الهرمل هناك نشاط سياحي يعتمد على نهر العاصي وزوار مغارة مار مارون إلا أنه يبقى ضعيفًا مقارنة بمناطق لبنانية  اخرى. 

معدلات الأميّة لم تزل مرتفعة خصوصا" بين النساء وقد بلغت نحو ٣٠ في المئة بين نساء قضاء الهرمل وفق تقارير بعض المنظمات الدولية رغم جهود هذه المنظمات في مكافحة هذه الظاهرة ، مشاريع البنى التحتية من طرقات ومياه وشبكات كهرباء وعود مؤجلة من الدولة على طول الطريق من بريتال إلى الهرمل . 

" رفعوا العقوبات عن سوريا ، ويبدو اننا سنضطر الى ان نأتي باحتياجاتنا من سوريا لانها ستصبح ارخص من عندنا" يقول مسعود الحجيري في إختصار للمشهد السياسي والاقتصادي المتعلق بسوريا ولبنان . 

شهيدان للجيش وعدد من الجرحى حصيلة آخر مواجهات حي الشراونة في بعلبك منذ يومين، الحي الذي أصبح أشهر من أن يُعَرَّف يصفه مصدر أمني لموقعنا بأنه " مرتع للخارجين عن القانون وتجار الممنوعات".

يحاول البعض تصوير الأمر على أنه إستهداف لفئة سياسية أو لمذهب معين وهو ما ينفيه مصدر أمني مؤكدًا أن "جميع الأطراف السياسيين وأولهم الثنائي الشيعي يقولون بعدم تغطيتهم للمتعدين على الجيش والخارجين عن القانون وكان لافتًا توقيف المطلوب بأكثر من ١٠٠٠ مذكرة توقيف نوح زعيتر بعملية امنية لمديرية المخابرات في الجيش في بلدته الكنَيسِة.

هذه الأجواء الامنية المتوترة إضافة" الى الخوف من حرب اسرائيلية جديدة يُقال أنها ستتركز هذه المرة على البقاع الشمالي بالذات ترخي بظلالها وتزيد الواقع الاجتماعي والاقتصادي اهتراء وضعفًا، في بعلبك الهرمل ويصبح من الصعب على اي انسان يسكن هذه المنطقة التفكير في تحسين مستوى معيشته والاستثمار فيها. وما زاد الطين بلّة عدم تمكن عدد كبير من أصحاب البيوت المستهدفة في الحرب الاخيرة من ازالة الردم واعادة إعمارها في ظل غياب التمويل وارتباط موضوع اعادة الاعمار بإعتبارات سياسية ومالية .

" هنا لا تفكّر بفتح محل جديد. هنا تفكر كيف ستقفل القديم من دون خسارة". بغصة كبيرة ، يقولها وسام الذي أتى من المهجر وآمن وإستثمر في مقهى وفرن في بلدة العين ولكنه مُني بخسارة بعد الحرب الاخيرة ويفكر الآن في العودة مجددًا الى بلاد الاغتراب.

نهر العاصي ومقاهيه خالية من الزوار

اقرأ المزيد من كتابات بشير ي. مطر