اطفال الجنوب في الحرب تغيّر السلوكيّات وتأقلم مع الموت
اطفال مهجرون ( اليونيسيف)
الحرب المتواصلة على الجنوب منذ ما يزيد على السنتين، دمرت الحجر، وقتلت وشردت الآلاف. ولكن يبقى أيضا من ضحاياها الأطفال، الذين عاينوا أصوات الرعب القاتلة، وفقدوا منازلهم، ومدارسهم، وتشرّدوا من قراهم، وقضى أعزاء لهم من أقاربهم أو معارفه.
ولعل هؤلاء من أكثر الفئات العمرية تأثرًا ، اذ ليس لديهم القدرة الكافية على التعبير. من هنا كان من الضروري الإلتفات اليهم برعاية كافية، من اختصاصيين اجتماعيين، ومعالجين نفسيين. وللإطلاع على وضع أطفال المنطقة الحدودية، نفسيًّا واجتماعيًّا وسلوكيًّا وتعلميًا، قام "كافيين دوت برس" بجولة ميدانية على المعنيين والعاملين مع أطفال المنطقة لنقل تجاربهم وانطباعاتهم.
مديرة مدرسة بنت جبيل الرسمية الثانية، والإختصاصية بعلم النفس رنا حمود، قالت " عندما باشرنا بالتعليم هذه السنة، واجهتنا مشكلة تدني المستوى. إذ إن اولادنا أمضوا السنتين الماضيتين في التعلم عن بعد، ما اثبت ضآلة إلانتاجية لأسباب عدة ومنها تقنية. وقد باشرنا بخطة وضعتها وزارة التربية، وهي تعويض الفاقد التعليمي في فترة ستة أسابيع إلى ثمانية ".
وقد فاقم الوضع النفسي للتلاميذ من الصعوبات" فالتركيز خفّ كثيرًا، كما سُجلّت حالات الإنطواء والرفض والعنف ". واضافت أنها من ضمن معالجاتها "طرحت على طلاب الصف التاسع أن يظهروا مشاعرهم مع بداية العام الدراسي ، فجاءت جميع الإجابات سلبية : لا شغف ، حزن ، لامبالاة ... عدا طالب واحد من أصل ٢١ عبّر عن فرحه". غير أن حمود ، تعبّر عن تفاؤل " إلى أننا بدأنا نلمس اهتمامًا ، وتغيّرا في سلوكيات التلاميذ ".
اطفال يتأقلمون مع الموت
ومن ضمن هذه المحاولات ، تقوم منظمة l'oeuvre d'orient ، بالتعاون مع السفارة الفرنسية، بتنفيذ مشروع دعم نفسي وسلوكي في بعض المدارس الحدودية. وذلك لمساعدة الأولاد على تخطي المشاكل التي تعرضوا لها .
موقعنا التقى ناشطات في هذا المشروع، ومنهن الإخصائية النفسية ديبة عطية، التي لاحظت معاناة الأطفال من " فوبيا " الخوف المفرط، الخوف النابع من ذواتهم، وآخر ينتقل إليهم من الأهل. فكل صوت مرتفع، أو سماع طيران ، أو قصف بعيد يسبب لهم تشنجًا واضطرابًا. حتى هناك خوف من استعمال الأوتوكار خشية استهداف سيارة مجاورة له بالقصف".
ولاحظت عطية أن الأطفال أصبحوا يمتلكون مفردات جديدة لم يعرفوها سابقا فحديثهم عن : التفجير، والإستهداف، والصواريخ، والقذائف، وزنار النار، وأنفاق، و mk ، ونزوح، ومساعدات ... كما أن هناك أمرا آخر، يشكّل خطرا على نفسيات الأطفال، وهو ظاهرة " التأقلم السلبي " مع الأحداث، وخاصة حالات الموت ، التي أصبحت بالنسبة اليهم أخبارا عابرة. وهم يقفون منها بلامبالاة، كالأخبار العادية التي تمر مرور الكرام".
أطفال المنطقة الحدودية : أحلام مؤجلة
السيدة سارة حصروني، منسقة مشاريع دعم نفسي واجتماعي برفقة فريق عمل مختص في الجنوب، يشمل مدارس وبلديات وجمعيات، أوردت لموقع "كافيين دوت برس" بعض مظاهر الحالات النفسية التي سجلتها للأطفال واليافعين. فبعضهم رسم منزلًا مغلًقا تماما من دون نوافذ وأبواب، لئلا يظهر منه نور فتهتدي اليه الطائرات فتقصفه. آخر رسم منزلا خاليًا، فهو لا يريد أن يعرض اهله للخطر إن قصف المنزل. استبدل الأطفال رسم الطبيعة الجميلة والشمس، برسم الطالرات وهي تغطي السماء. بعضهم جهّزوا حقائب تحتوي على أغراض شخصية، وأسموها " شنطة الهرب ". أولاد يرفضون النوم من دون انتعال احذيتهم، استعدادًا للمغادرة فورا اذا تعرضوا للقصف. صلوات بعض العائلات قبل النوم، فيها طلب من الله ان تكون ليلتهم خالية من القصف .
ولاحظت حصروني أن الأطفال لم يعد لديهم أحلام في الحياة ." ولد عمره تسع سنوات قال لي أن لا أحلام لدي . طلبت منه أن يتذكر آخر ما كان يحلم به قبل الحرب ، فأجابني : لقد أجلّت أحلامي !"
وذكرت حصروني أنهم أجروا إحصاء في المنطقة، من خلال تعبئة استمارة لمقياس " الرفاه النفسي عند المراهقين والمراهقات " . وقد طال ١٠٠ شخص من عمر ١٣ إلى عمر ١٨ . وقد تبين أن ٧٠ بالمئة منهم في حاجة الى دعم نفسي واجتماعي " غير أن هذا يظل قاصرا جدا عن المطلوب، اذ يجب أن يطال الكشف النفسي جميع الأطفال والمراهقين دون استثناء. وأن تكون المتابعة دائمة من قبل اختصاصيين تفتقد لهم المنطقة" . وأشادت حصروني بدور المعلمين الذين أصروا على فتح المدارس ، وهذا الإجراء يساعد في تخطي حالات معقدة".
شهادة عائلة جنوبية ، أطفال يؤاسون أهلهم !
وللإطلاع عن كثب على أوضاع الأطفال ضمن عائلاتهم ، إلتقى موقعنا أ . ع من بلدة يارون ، ولديه ثلاثة أولاد، فقال " أولادنا يعيشون في أسوأ حالة يمكن أن تحصل. فهم عاشوا رعب الحرب، إذ وقعت القذائف بالقرب منا . وهم امتصوا أيضا همومنا، نحن الأهل وهواجسنا. حصلت على قرض من المصرف لمدة ١٥ عامًا، وبنيت منزلنا في يارون. وقبل نشوب الحرب بستة أشهر فقط كنت قد سددت قيمة القرض. عندما اندلع القتال سقطت قذائف بجوار منزلنا، وقتل اربعة اشخاص ، فنزحنا الى رميش ثم الى بيروت . دمّر المنزل تماما، فخسرته مع ورشة عمل زراعية مجاورة تضم آلات ومعدات مختلفة باهظة الثمن. عدت اليوم الى قريتي ، فلم يعد بمقدوري تحمل المصاريف خارجها. أصلحت منزلا لأحد الأقرباء وأقمت به . إلتحق اولادي بالمدرسة بعد انقطاع سنتين، وهم يواجهون صعوبات تعلمية كبيرة نتيجة هذا الإنقطاع، ونتيجة حالتهم النفسية. فقد أصيبوا بصدمة شديدة ، نتج عنها حالة شرود وعدم القدرة على التركيز. وقد عانى ابني الصغير صعوبات في النطق نعمل على معالجتها. وهم يتساؤلون عن المصير والحرب والإقامة. يتذكرون بحنان شديد منزلهم المدمر ولهم فيه ذكريات يرددونها كل وقت. يشعرون بوجعنا نحن الأهل ، لقد تبدلت الأدوار ، هم يحاولون التخفيف عنا ، يبتسمون في وجوهنا . قبل أن آتي إليك أمسك طفلي هذا الذي يرافقني بيدي وهمس : بابا ، أرجوك ما تهتم كتير".