الحرب في القرى المسيحية الجنوبية : خسائر فادحة لم تستثنِ احدًا

الحرب في القرى المسيحية الجنوبية : خسائر فادحة لم تستثنِ احدًا

على ايقاع  التطورات السياسية والعسكرية المتعلقة بوقف النار في جنوب لبنان، لا تزال حصيلة الحرب الاخيرة،  تحتاج الى معاينة دقيقة ، بعد الدمار الشامل ، اذ قوّضت وسائل الإنتاج ، وضيّقت سبل العيش، وهددت الاف المواطنين بالتشرد. وهذه الآثار ، لم تستثن أحدا في  القرى المسيحية المنتشرة في المنطقة الحدودية الجنوبية.  

قبل نشوب الحرب ابتداء من تشرين الأول ٢٠٢٣ ، عاشت هذه القرى ، إسوة بتلك المجاورة لها ، تطورا ملموسا ، وازدهارا في كافة الصعد ، رغم الأزمات المالية والإقتصادية التي شهدها لبنان عامة .هذا الإزدهار كان واضحًا في مختلف المجالات. فحركة البناء كانت ناشطة ( على سبيل المثال : كان متوسط عدد مقدمي طلب رخص البناء في رميش ٦٠ طلبا سنويا ، وفي عين ابل ١٥ ) . وتوسع إنشاء المرافق السياحية الكبيرة ، التي ضمت فنادق ومطاعم ومنتجعات وبيوت جاهزة في جميع القرى المسيحية ( منها فقط في رميش ١٠ ) . ونشط المزارعون في إنشاء المزارع الحديثة ، من دواجن وأبقار وأغنام وماعز وخنازير . وتمددت الأراضي الزراعية بعدما استصلحت مساحات واسعة منها ، وغُرست آلاف الأشجار المثمرة ، وفي طليعتها الزيتون . كذلك اُسست المصانع ذات الأحجام المتوسطة والصغيرة ، وخاصة الغذائية منها والنسيجية.. وانتشرت المخازن التجارية الواسعة التي ضاهت مثيلاتها في المدن الكبيرة. وتوسعت المعاهد التربوية والمدارس التي استقطبت آلاف الطلاب من أبنائها ومن أبناء القرى المجاورة .هذه الحركة العمرانية والإقتصادية النشطة ، التي وفرت العديد من فرص العمل ، شجعت السكان على الإقامة في قراهم والثبات فيها ، فجمدت ، الى حد كبير ، حركة النزوح التقليدية نحو بيروت. بل وأكثر من ذلك ، بدأت هذه القرى تشهد حركة نزوح معاكسة من المدن إليها . فبعض من أبنائها فضل ترك مناطق العاصمة وجبل لبنان والعودة للإقامة في قراهم ، نظرا الى تدني تكاليف المعيشة، وتوفر بيوت سكنية واسعة لأهاليهم ، تحيطها زراعات محلية تسد قسما كبيرا من حاجاتهم الغذائية ، وكذلك تدني الأقساط المدرسية.

غير أن هذا النمو المضطرد تلقى ضربة موجعة في الحرب الأخيرة . فقد طالت الخسائر مختلف أوجه النشاطات بدءا بالدمار الواسع للبيوت السكنية ، وقد تفاوت هذا الدمار من قرية الى اخرى . ففي بلدة علما الشعب دمر ٩٧ منزلا في شكل كامل ، ولحقت أضرار جزئية بمئتي منزل .وفي القوزح دمر وتضرر نحو ٨٠ منزلا من اصل مئة. وفي بلدة يارون هدم تماما ما يزيد عن خمسين مسكنا في الحي المسيحي . كما تضررت وحدات سكنية عديدة في البلدات المسيحية الأخرى ، كعين ابل ودبل ورميش . ودمرت او اتلفت عشرات المزارع ، منها عشرة في بلدة رميش فقط . وجرفت وحرقت الآلاف من الأشجار المثمرة ، وفي طليعتها الزيتون . ففي بلدة علما الشعب احصت البلدية خسارة ١٢٠٠ شجرة مثمرة .وفي رميش تتعدى الخسائر العشرة الاف . وهناك مزارع واحد من البلدة خسر ما يزيد عن ألفي شجرة زيتون وصنوبر . وبسبب الأوضاع الأمنية ، لم يستطع الأهالي جني محاصيلهم لسنتين متواليتين. وبحسب رئيس بلدية عين ابل ايوب خريش ، " لم يستطع  أهالي البلدة جني محصول ما يزيد عن ٥٠ الف شجرة زيتون لسنتي الحرب ، كما توقفوا عن الإعتناء بها ، لهذا من المتوقع أن يخسروا موسمهم لهذا العام أيضا ".
 وبسبب الأوضاع الأمنية أيضا ، يمنع على المزارعين استغلال أراضيهم الممتدة على الحدود لمسافة طويلة . فمزارعو رميش حرموا من زراعة نحو نصف مساحة أراضيهم ، وهي الأكثر خصوبة .
 وأصيب قطاع البناء بالشلل . وتوقف الطلب على رخص البناء في شكل تام . واستتبع ذلك توقف جميع الأنشطة المتصلة به من كهرباء وبلاط ودهان والمنيوم وسنكرية ونجارة وغيرها . وقدر نائب رئيس بلدية رميش موسى شوفاني ، الذي يملك متجرا لمواد البناء ، تراجع تجارته الى ما يزيد عن ٨٠ بالمئة .


 ولحق ايضا في القطاع التربوي أضرار جسيمة . فهي فقدت المئات من طلابها من اهاليها او من القرى المجاورة . فهناك مدارس في علما الشعب ورميش وعين ابل ، خسرت اكثر من نصف طلابها ، مما أوقعها في حرج مالي يهدد عشرات المعلمين بقدان وظائفهم فيها .
 وشكلت الحرب ضربة قوية للمؤسسات الصناعية والحرفية والتجارية . فقد دمر بعضها ، او توقف عن العمل . ففي بلدة علما الشعب دمرت كليا او جزئيا ٢٦ من هذه المؤسسات .وتوقف النشاط السياحي ، وتقلصت كثيرا أعداد المغتربين من أبناء هذه القرى الذين اعتادوا سنويا على زيارة اهلهم فيها . وانعدمت زيارة اعداد وافرة من غير أبنائها الذين كانوا يقصدونها لجمال طبيعتها ، وهدوئها ، ولحضور المهرجانات التي تقام بها . فبلدة عين ابل كانت تستقبل سنويا مجموعات عدة للقيام بالسير على الطريق التي سار عليها  السيد المسيح في طريقه الى صور .

ويواجه الأهالي مزيدا من المعاناة بسبب احتفاظ الإحتلال الإسرائيلي لمواقع له في عدة نقاط على امتداد الطريق الرئيسية من المنطقة الساحلية في الناقورة ، الى منطقة مرجعيون . ومنها في بلاط في القطاع الغربي ، وفي محيط ميس الجبل ومركبا وحولا وكفركلا في القطاع الشرقي .وافقد تقطع الطريق الأهالي شريانا حيويا لتنقلاتهم ، وأعمالهم التجارية والتربوية والوظيفية والإدارية .اذ ان الإنتقال من الناقورة الى مرجعيون يستغرق عادة نحو ساعة وربع ، بينما هو اليوم في حاجة الى ما يقرب من ساعتين ونصف ، بعد الإلتفاف في طرق داخلية عبر منطقتي صور والنبطية .

ونتيجة للدمار الكبير ، ولتقلص فرص العمل ، والخشية من الأوضاع الأمنية ، خسرت القرى المسيحية اعدادا من سكانها ، تفاوت بين بلدة وأخرى . فعدد المقيمين في بلدة علما الشعب يبلغ حاليا حوالي ٣٥٠ شخصا من أصل ٩٠٠ شخص . وفي بلدة يارون عاد إلبها ٧ عائلات من أصل ٦٤ عائلة. وفي القوزح عاد اليها حوالي السبعين من اصل حوالي ٢٥٠ شخصا . اما بالنسبة الى بلدات عين ابل ودبل ورميش ، عاد إليها معظم سكانها المقيمين . وهم تقريبا ١٥٠٠ في عين ابل ، و ٢٢٠٠ في دبل . و٥٥٠٠ في رميش .

وكأن أهالي المنطقة الحدودية لا يكفيهم ما تعرضوا له ، فأضيفت إلى هواجسهم ما سُرب عن مقترح أميركي ، حمله اخيرا وفد برئاسة السناتور ليندسي غراهام . ويقضي بتهجير ٢٧ قرية ، تقع بعمق ٨ كلم ، على طول الحدود الدولية . من خلال منح سكانها تعويضات مالية مغرية ، وإقامة منطقة اقتصادية تحمل اسم الرئيس دونالد ترامب  ، ويشرف عليها الجيش الأميركي . هذا الإقتراح  ، أحدث في بداية تسريبه بعض القلق والتوتر عند الأهالي المقيمين في هذه القرى ، خصوصا، في ظل غياب أي نفي او توضيح من الجهات الرسمية . ولكن سرعان ما تلاشت أصداؤه ومفاعيله عند الأهالي ، الذين ما عادوا أخذوه على محمل الجد .

السفير البابوي في رميش خلال قداس الشعانين الماضي

الفاتيكان ودعم مسيحيي الجنوب

ساهمت جهات عدة في صمود الأهالي في قراهم ، ومنها مؤسسات المجتمع المدني المحلي واللبناني ، ومؤسسات دولية ، بالتعاون مع البلديات ، فقدمت المساعدات العينية والمالية والطبية .غير أن دورا بارزا كان للسفارة البابوية في لبنان . فقد قام السفير باولو بورجيا بعدة زيارات لهذه القرى . ويشير  الخوري جورج العميل ، نائب كاهن رعية السيدة في عين ابل ، الى  أهمية زيارات السفير البابوي للقرى المسيحية الحدودية  "مع بداية الحرب كانت المبادرة الأولى ، إذ قام السفير برفقة الوزير الحالي شارل حاج المسؤؤل عن "سوليداريتي" ، بزيارتنا لتقديم الدعم لنا. ثم قام السفير بزيارة ثانية في عيد الميلاد ٢٠٢٣ ، هذه الزيارة شجعت الكثيرين من الأهالي الذين كانوا قد نزحوا في بداية الحرب ، على العودة الى قراهم . وبعد ذلك زارنا عام ٢٠٢٤ في أحد الشعانين ، حين احتشدت  اعداد غفيرة خاصة في بلدة رميش ، وسارت في زياح الشعانين . وقد اعطت زيارات السفير لمنطقتنا الامل والدعم للأهالي ، اذ كان ينقل تمنيات قداسة البابا بالأمل والرجاء والصمود . وفي ايلول من العام الماضي ، عندما انفجر الوضع وبدأ من بقي من الأهالي يفكر بالنزوح الى بيروت ، تدخل السفير وحثهم على الثبات في ارضهم ، وأعطاهم تطمينات بابوية . ثم زارهم في عيد الميلاد ايضا ليعزز معنوياتهم . وحديثا في العاشر من آب ، رافق غبطة البطريرك في زيارتنا . ولم يكن موقف الدعم معنويا فقط ، إنما ماديا ، اذ ساهمت السفارة البابوية بمبالغ مالية لدعم المدارس. وقدمت البعثة البابوية مساعدات مالية وعينية لكثير من العائلات المحتاجة".
 
 

اقرأ المزيد من كتابات بيار حبيب