اليونيفيل: ليست قوة سلام فحسب ورحيلها نكسة اقتصادية للعائلات

من القوة الدولية في الجنوب ( عن موقع اليونيفيل)
يعيش المجتمع الجنوبي قلقًا على إيقاع التمديد حتى 31 كانون الاول عام 2026 فحسب لمهمة القوة الدولية العاملة في الجنوب "اليونيفيل"، لمرة اخيرة. والقلق لا يتعلق فحسب بمهمة حفظ السلام، بل بدور القوة الدولية الاقتصادي والتنموي، خصوصًا في ظل غياب أي اقتراحات عملية، كبدائل إنتاجية تُطمئن الجنوبيين. حتى باتت الخشية، مع انتهاء مهمتها، من حصول موجة نزوح من هذه المنطقة لم تشهدها سابقًا.
بدأت قوة حفظ السلام عملها في جنوب لبنان في العام 1978. ومنذ وجودها، أفادت القاطنين في قرى نطاق عملها، في التوظيف وفي خلق حركة اقتصادية نشطة. غير أن تأثيرها القوي والفعال تمدَّد كثيرًا ابتداءً من العام 2006. علمًا أن عديد هذه القوة يبلغ حوالي 10 آلاف جندي من جنسيات عدة. وتكمن أهمية وجودها في اتجاهات عدة، ومنها: الوظائف المدنية المرتبطة بها، والشركات المحلية المتعاقدة معها، والتجارة الناشطة في مراكزها، ومساهماتها التنموية، والمساعدات التي أفادت جميع القرى الحدودية من دون استثناء.
فعدد اللبنانيين المتعاقدين معها يبلغ حاليًا حوالي 530 موظفًا، بعد أن كان لوقت قصير سابقًا حوالي 600. هذا التناقص ناجم عن قرار اتخذته المنظمة الدولية بتجميد التوظيفات وتقليصها، وبالتالي الامتناع عن ملء الشواغر الحاصلة.
وجاء تناقص التمويل نتيجة لامتناع دول مؤثرة عن دفع كامل مستحقاتها للمنظمة. وربما كان تمهيدًا للمباشرة بمعالجة كل ما يترتب من آثار وقف عمل هذه القوة. ومما يزيد من هذه الشكوك، تقديم حوافز للموظفين حاليًا، لحثهم على تقديم استقالاتهم. ومنها منحهم راتب سنة كاملة، إضافة إلى حقوقهم الأخرى. غير أن هذا الإجراء يفيد من تجاوز الخامسة والخمسين من عمره وكان لديه عدد محدد من سنوات الخدمة. بينما يَظلم من هم دون هذه السن، إذ لا ينالون حقوقهم الكاملة. لذا من المتوقع أن يعمد عدد كبير من الموظفين إلى الإفادة من هذا العرض وترك عملهم. علمًا أن رواتب الموظفين اللبنانيين تراوح بين 3000 و6000 دولار شهريًا، إضافة إلى تأمينات صحية. وبحسب بنود عقود عملهم، فهناك تخوف أن يفقد كثيرون منهم تعويض نهاية الخدمة، وأن يحتفظوا فقط بتعويض صناديقهم الخاصة، التي مُوِّلت أساسًا من اقتطاعات من رواتبهم، إضافة إلى بعض المساهمة من المنظمة الدولية.
وتبلغ قيمة موازنة اليونيفيل سنويًا حوالي 530 مليون دولار، تنقسم بين رواتب الموظفين وتعويضاتهم، ومصاريف عملانية كالمحروقات والمواد الغذائية والتنقل والسفر وغيرها.
في موازاة هؤلاء الموظفين، هناك عدد من الشركات المتعاقدة مع اليونيفيل. منها المتوسطة والكبيرة الحجم، ويُقدَّر عددها بحوالي العشر، وتضم كل واحدة منها ما بين 10 إلى 70 مستخدمًا. إضافة إلى عدد وافر من الشركات الصغيرة الحجم. وهذه الشركات تقدم خدمات في مجالات عدة، كالتنظيفات وصيانة الكهرباء، والصحية، والتدفئة والتبريد، وتأمين المواد الغذائية، والمشروبات على أنواعها، والمفروشات والقرطاسية، وتأمين المحروقات، وإعداد الطعام في مطابخ المراكز. وجميع أنواع التجهيزات والصيانة. ويستفيد قطاع النقل، إذ إن الوحدات العاملة تتبدل دوريًا، كل أربعة إلى تسعة أشهر. وكل وحدة تأتي بعتادها الخاص بها، وترحل الوحدة السابقة بعتادها أيضًا. مما يولد حركة نقل نشطة، ويتم استئجار وسائل نقل لبنانية لنقل الجنود وأمتعتهم من المطار وإليه.
وفي مراكزها المنتشرة في الجنوب، سُمِح لمواطنين بتأسيس متاجر تبيع مختلف أنواع السلع للجنود. كذلك فُتحت المطاعم الخاصة. واستفاد بعض أصحاب المهن الحرة كالحلاقين. ومن التجارة الرائجة بيع القطع الذهبية والألماس. كما تُنظَّم في مواسم معينة، داخل هذه المراكز، أسواق خاصة، تُعرض فيها منتجات الأهالي المحلية والحرفية وتذكارات يحملها الجنود إلى أوطانهم. ومن المنتجات المحلية: العسل وزيت الزيتون والصابون والمخللات وغيرها.
وإن تقلصت المتاجر والمطاعم خارج المراكز العسكرية، إلا أن بعضها لا يزال يعمل، ويخدم جنودًا يتنقلون خارج مراكزهم، أو يقصدونها لمزايا تتمتع بها.
للقوة الدولية دور مهم في مساعدة الأهالي، وتأهيل البنية التحتية في المنطقة الحدودية وتطال هذه المساعدات مختلف نواحي الأنشطة العامة. فهي تنسق مع البلديات والمؤسسات العامة، والجمعيات والنوادي. فهذه الأخيرة تقدم لها دراسات مشاريع تحتاجها القرى، وهي بدورها تعمد إلى تمويل أو تنفيذ ما تراه ضروريًا، وإمكانية تمويله مُتاحًا. مثل دعم حفر آبار ارتوازية، وتأمين المضخات والمحركات، والطاقة الشمسية، وإنارة الطرق، وإنشاء ملاعب، ودعم مطابخ لجمعيات خيرية، وتجهيز عيادات، وتقديم أدوية ومعدات طبية، وتنظيم عيادات نقالة، وتأهيل طرق، وتقديم مساعدات للمدارس الرسمية والخاصة، وتساعد جمعيات تُعنى بذوي الحاجات الخاصة. وتقدم الهدايا للأولد في المناسبات والأعياد. كما تدعم دور الحضانة ومراكز الإنعاش الاجتماعي.
وشملت خدماتها القطاع الزراعي، كخدمات البيطرة التي تقدمها الوحدة الهندية. وتُساند جمعيات تُعنى بحقوق المرأة. وتقدم حصصًا غذائية ومعيشية، وحليبًا للأطفال وحفاضات، بخاصة في الأزمات الكبيرة. وتستقبل عياداتهم الخاصة داخل مراكزهم الحالات الطارئة للمواطنين. وربما شكلت هذه القوة تجربة مهمة، في أخذ أعلى معايير السلامة البيئية في مختلف أنشطتها، وفي التعامل مع النفايات وفرزها وحرقها والاستفادة منها كما في الناقورة مثلاً ومعالجة المياه المبتذلة.
ولا يقتصر تأمين التمويل لكل هذه الأنشطة، على الموازنة المخصصة من المنظمة الدولية، بل تقدم بعض الدول المشاركة في هذه القوة، تمويلاً ذاتيًا من حكوماتها. وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي (فرنسا وإيطاليا وإسبانيا...). وتُقدَّر قيمة إنفاقاتها من التمويل الذاتي ما بين 200 و300 مليون دولار سنويًا. ولكي تزيد من فاعلية دورها الاجتماعي والتنموي، أسست الوحدات العاملة جهازًا خاصًا لكل منها، يُعنى بهذه النواحي، وهي من أهم أجهزتها، وتُسمَّى فرقة التعاون المدني العسكري (CIMIC).
وبرز دور ثقافي للقوة الدولية. فقد نقلت لغاتها المختلفة إلى الأهالي، الذين أتقن عدد كبير منهم التحدث بها وكتابتها. ومنها الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والإسبانية والهندية والدانماركية والسويدية والنروجية والكورية وغيرها.. وحتى الصينية في نواحي بلدة الحنية في قضاء صور. وعمدت وحدات إلى الاتفاق مع بعض المدارس، فحضر عناصر منها إلى داخل الصفوف، وتبادلوا الأحاديث مع الطلاب في لغاتهم الأم. ونجم عن وجودها زيجات عديدة بلغت العشرات، ما نشَّط حركة تبادل الزيارات بين العائلات.
شكلت قوة حفظ السلام في الجنوب، حالة فريدة في قدرتها على تنشيط الحركة الاقتصادية ضمن دوائر متكاملة متصلة ببعضها. حتى ربما وُجدت متاجر صغيرة في أحياء القرى، لها ارتباط، بشكل أو بآخر، في هذه الحركة. وشكلت مؤازرة لمؤسسات الدولة، وربما أخذت مكانها في بعض الحالات، في تنفيذ مشاريع حيوية للقرى الحدودية. إضافة إلى التجربة الإنسانية والثقافية. وهي، إن غابت، ولكل مهمة نهاية، ستخلف وراءها فجوة عميقة لن تُردم في زمن قريب.