اشتاقت المسامع إلى معزوفة المطر

اشتاقت المسامع إلى معزوفة المطر

لا يعلم مقدار جمال الخريف في الأماكن الجبلية سوى الذي، لشاغل ما، أو بمحض إرادته، يؤخر نزوله إلى مشتاه. فيخيّل إليه، وهو ينعم بالهدوء والسكينة بعد طول جلبة وضجيج، وكأنّ الألوان كلّها ملك يديه. يحملها في عينيه، وعلى أطراف أصابعه العشر، أو كأنّ أسراب الطيور المهاجرة بحثًا عن الدفء، ملك له، وهي تعبر في فضائها العالي. ويصبح أكثر تنبهًّا لتعاقب النور والظلام، للأبواب المحكمة الإغلاق على متداد الطرقات، لعطش التراب، للضباب، للحمرة الباهتة في السماء، للبقية الباقية من أضواء المساء، ولاختفاء الأشياء في الليل، وفقدانها لشكلها  وكيانها .

إلّا أنّ كلّ ذلك السحر لا يحول دون انبعاث قلق غامض في داخله جرّاء التأخّر في تقلّبات الطقس، وازدياد معدّلات الجفاف، وتوالي الحرائق الملتهمة للاخضرار الذي طالما احتل مساحات واسعة في مواويلنا وأغانينا، في مفاجأة مناخيّة بدأت تأخذ مجراها منذ أعوام. كما لا يحول دون اشتياقه إلى تأمّل اضطراب السحب الكثيفة الماضية في الجوّ، لا تستقرّ على حال، ولعصف الرياح الهوجاء، لانهمار مطر طال تأجيله لموعده. فلا شيء يعادل الارتياح إلى انتظام دورة الفصول، وعودة السماء إلى توجيه إنذاراتها في مواعيدها المعتادة، وإلى صفير الرياح، واهتزاز مصابيح الشوارع، وتراكض الغيوم في السماء الداكنة، واشتعال المواقد، والكعك المغموس بالشاي، وهطول المطر بغزارة، تُزاح بسببها الستائر للتفرّج عليه يتقاطر على الأشجار، ويسيل من الميازيب. فمعزوفة المطر جميلة في وقتها. والأرض، بلسان كلّ نبتة، وكلّ ورقة صفراء تسقط الآن، على أمل أن تحلّ محلّها ورقة وليدة، في الربيع المقبل، توشوش مرجئ نزوله بهذه الضرورة، وهو يتأمّل مشاهد الغابات المحروقة المحتاجة إلى ما يشفيها من جروحاتها، ويبلسم أوجاعها .

ولأنّ كلّ شيء جميل إذا جاء في تمام وقته، فحتّى الطقس الرديء، وهدير الأعاصير، وغضبة الأنواء، وغرق الشوارع في ما يشبه الطوفان، كلّها تصبح مطلوبة، ومرغوبة، متى انتظمت في سكّتها الزمنيّة المألوفة، وأدخلت البهجة إلى قلب الأرض المتحرّقة إلى ما تبلّ به اليوم شفاهها المتشقّقة، قبل أن تنام نومها الطويل، وخدرها المديد. على أن تعيد، من ثمّ، إرسال برقيّاتها المكتوبة على كلّ ورقة خضراء، في الجهات الأربع، وهي تراعي مجرى الزمان. وما كان. وما سيكون .


اقرأ المزيد من كتابات محسن أ. يمين