الحضور السياسي الانتخابي في القرى المسيحية الحدودية
إعتبارات عدة تؤثر في توزع وفعالية الأحزاب والقوى السياسية، في القرى المسيحية الحدودية الجنوبية. ومنها الموقع الجغرافي، والمحيط المجاور، والمصالح الإقتصادية والخدماتية والسياسية، وطبيعة القوانين الإنتخابية. ويبقى الأهم القناعات العقائدية، والأهواء الطائفية.
من هنا، توزعت القوى السياسية بين مناصرين للأحزاب المسيحية الكبرى (ولهم الحصة الأكبر )، ومؤيدين للتيارات التغييرية الحديثة الولادة نسبيا، ومحبذين للثنائي الشيعي .
دور الأحزاب المسيحية
إسوة بباقي المناطق اللبنانية، التي تخضع للتأثير الطائفي بالدرجة الأولى، فهناك حضور وازن للأحزاب المسيحية في هذه المنطقة. إذ هي تتفاعل عقائديا وعاطفيا مع ما يجري في العاصمة ومحيطها. وخاصة مع التركيبات ذات الصبغة الطائفية لمختلف الأحزاب اللبنانية الكبيرة. فكان للأحزاب المسيحية تواجد في القرى الجنوبية منذ الخمسينات من القرن الماضي. فانتشرت أقسام الكتائب ، وبيوت الوطنيين الأحرار. كذلك كان هناك مناصرون للكتلة الوطنية. وجدير بالذكر هنا، أنه كان للأحزاب اليسارية حصة محدودة أيضا، من شيوعيين وسوريين قوميين اجتماعيين. ولكن مع اندلاع الحرب اللبنانية منتصف السبعينات، تقلّص الوجود اليساري كثيرًا. وربما وجد أصحاب الفكر المستقل او اليساري، ضالتهم حاليًا، في التيارات التغييرية الحديثة .
في الثمانينات من القرن الماضي، تقدم دور القوات اللبنانية، ثم العماد ميشال عون، اللذان حجزا لهما المقاعد الأولى داخل هذه القرى، مع استمرار تواجد وازن لحزب الكتائب .
ومن ضمن تنافس هذه الأحزاب ، فإن ميزان صعودها أو تراجعها في المزاج الشعبي المحلي، تأثر بظروف نشأتها ورمزية قادتها، وسياساتها العامة ، وممارستها في السلطة . فمع بروز عون ابتداء من العام 1988، شهدت القرى المسيحية الحدودية مدّا عونيًّا كبيرًا ، خاصة في القرى التي اعتاد قسم كبير من شبانها الإنخراط في الأسلاك العسكرية. إذ وجدت في قائد الجيش ورئيس الحكومة الإنتقالية الشرعية مع خطابه المرتفع ضد الميليشيات المسلحة، تمثيلًا حقيقيًّا لها. في السنوات الأخيرة، شهد المدّ العوني جمودًا وبعض الانحسار. ولكن يبقى له حضور هام، كما اظهرت نتائج الإنتخابات النيابية عام 2018 ، بحصوله على نحو ثلث الاصوات المسيحية في قرى قضاء بنت جبيل. أما في انتخابات 2022، فلم يكن للتيار مرشحا خاصا، وترك حرية الإختيار لمناصريه.
وفي ما يتعلق بحزب القوات اللبنانية، فبعد خروج رئيسه الدكتور جعجع من السجن عام 2005، عاد ليجدد أنفاسه في المنطقة، بعد أن كان خلايا نائمة وفاقدة الحركة ، خاصة أنه مع خضوع المنطقة للإحتلال الإسرائيلي قبل العام 2000 ، كان هناك حظر من قبل قائد جيش لبنان الجنوبي أنطوان لحد ، على النشاط الحزبي العلني في المنطقة ، بحجة عدم نقل الصراع العوني - القواتي الى المنطقة . وبعد خروج جعجع من السجن ، بدأ حزب القوات ينظم نفسه، ويبني هيكليته، واستطاع استقطاب شريحة هامة من الرأي العام المسيحي في القرى الحدودية. وقد ظهر هذا واضحا في الإنتخابات النيابية التي جرت عام 2018 ، إذ استطاع ، بالتحالف مع الكتائب ، الحصول تقريبا على ثلث اصوات القرى المسيحية في قضاء بنت جبيل ( وهي رميش ، وعين ابل ، ودبل ، والقوزح ) .
وعلى الرغم من مقاطعة حزب القوات اللبنانية لانتخابات 2022، غير أنه، في مقاطعته هذه ، أظهر تأثيرًا واضحًا على الرأي العام المسيحي ، من خلال النسبة العالية التي سجلتها المقاطعة، على الرغم من قوة جذب التيار التغييري الصاعد. ولكن نسبة المقاطعة هذه ، ساهم فيها التيار الوطني الحر، فهو إن لم يدع كالقوات إلى مقاطعتها ، فإن عددا من مناصريه لم يتوجهوا الى صناديق الإقتراع ، خاصة لعدم وجود مرشح لهم .
التغييريون : حيثية غير مستقرة
بعد الإنتفاضة الشعبية التي شهدها لبنان في العام 2019 ، وتوالي الأزمات المالية والمصرفية والإقتصادية، ظهر التغييريون كبدائل للقوى السياسية التقليدية عند فئات شعبية ومنها في القرى المسيحية الحدودية . وقد حاولوا إثبات أنفسهم على أنهم حيثية فاعلة من خلال انتخابات 2022 النيابية. وقد نجحوا في إيصال نائبين الى الندوة البرلمانية وهما الياس جرادي وفراس حمدان عن دائرة مرجعيون - حاصبيا .
لكن لا بد من الإشارة إلى أن التغييريين قد استفادوا من عدة عوامل في تلك الإنتخابات ومنها : كانت القناعة الشعبية في ضرورة تغيير الطبقة الحاكمة في ذروتها ، عدم خوض التيار الوطني الحر الإنتخابات في المنطقة الحدودية ، فتشتت أصوات مناصريه ، وقسم منهم أيّد التغييريين. إنكفاء حزب القوات اللبنانية لطلب من مناصريه مقاطعتها. غير أن عددا منهم صوّت لصالح التغييريين، على اعتبار، أنه مهما يكن ، يبقون أفضل من مرشحي الثنائيّ أمل وحزب الله ، تأييد قوي من حزب الكتائب لهم ، إرتقى إلى مستوى التحالف . تأييد من المستقلين وأصحاب الميول اليسارية .
غير أن حضور التغييريين شابه انزلاقات عدة . أولها غياب آلية تواصل فعالة مع القاعدة الشعبية، فتحركاتهم تعتبر مساع فردية، وعدم وجود نوع من الإطار التنظيمي، قطع التواصل الدائم مع الناس، خاصة في أزماتهم الكبيرة .
كذلك تعدد الخطاب السياسي، وفي بعض الحالات تناقضها، وضع شريحة مما كانت مؤيدة لهم في حالة ندم، أو على الأقل في حالة حيرة . فهؤلاء يأخذون على سبيل المثال، مواقف النائب الياس جرادي، فبنظرهم إن مواقفه قد ابتعدت عن خطاب الحراك التغييري ، الذي توجه به الى الناخبين عشية انتخابات 2022 ، والذي على أساسه قد أسقطوا ورقتهم في صندوق الإقتراع. فهذا الخطاب كان يؤكد تباينهم عن أحزاب السلطة المتمثلة في المنطقة بحزبي الثنائي أمل وحزب الله . وبرأيهم ، فإن النائب جرادي أصبح يتماهى تماما مع مواقف كتلة الوفاء للمقاومة ، مهما حاول تبرير مواقفه وهذا ما زعزع ثقة الكثيرين بالتيار التغييري، مما سينعكس سلبًا على قدرته على الإستمرار بفعالية، في مواجهة ضغط الأحزاب التي تحاصره من الجهتين الشيعية والمسيحية .
ولا بدّ من الإشارة ، إلى أن مواقف جرادي ، ربما أفادته شخصيا في تعزيز رصيده عند الثنائي، وفي خلقه حالة سياسية خاصة به ، لصفاته الشخصية ، وقناعاته السياسية. ولكن هنا الحديث عن إلقاء الضوء على الحالة التغييرية في حدّ ذاتها ، كتيار متمايز عن الآخرين.
الثنائي أمل وحزب الله ، حاضر في القرى المسيحية
إلى جانب الأحزاب المسيحية والتغييريين ، يظهر جضور الثنائي الشيعي في الإنتخابات النيابية . وذلك انطلاقا من عدة اعتبارات، وفي مقدمها الموقع الجغرافي المحاط بمد واسع من الحضور الشيعي . فتولدت قناعة ، ومنها متوارث، عند شريحة من مسيحيي المنطقة الحدودية، أن " مصلحتنا تقتضي التلاقي مع القوى السياسية لجيراننا ". وفي نظر هذه الشريحة ، فإن هذا التأييد الإنتخابي ( وليس بالضرورة السياسي ) ، هو مصلحة لنا اقتصادية ، وتنموية، وخدماتية .
أحد الوجهاء في قرية مسيحية كبيرة ، كان مؤيدا للرئيس كامل الأسعد . ولكن مع تبدل طبيعة القوى السياسية في الجنوب، أعلن هذا الوجيه تأييده للرئيس نبيه بري. وعندما سُئل عن سبب هذا التبدل، أجاب أنه هو لم يبدّل موقفه، بل الجمهور الشيعي هو الذي غيّر زعماءه. فهو يختار من يختارونه.
هذا المفهوم ، وإن كان لا يزال قناعة عند البعض، إلا أنه يواجه رفضا عند مؤيدي الأطراف السياسية الأخرى. فالتأييد يُبنى على قناعة ، وليس على أمر واقع . ومن المفارقات أن هذا الوجيه المسيحي ، الذي والى الرئيس بري بداية، عاد وبدّل موقفه ، وأعلن تأييده لحزب مسيحي فاعل .
وتظهر أرقام انتخابات 2022 حجز الثنائي أصواتا لا بأس بها من الصوت المسيحي. غير أن هذه الأرقام كان يمكن أن تتدنى لو خاض التيار الحر الإنتخابات. إذ إن أصواتا منه صبّت لصالح لوائح الثنائي .
ولا بد أن يكون هناك تأثير لحرب السنتين التي اجتاحت المنطقة . ولكن لا يمكن تلمس مقدار هذا التغيير واتجاهاته بدقة ، طالما أن الأوضاع لم تستقر بعد، والمستقبل لا يزال يشوبه كثير من الترقب والقلق.
ثوابت دائمة عند مسيحيي المنطقة الحدودية .
ويبقى أن مختلف الأطراف في القرى المسيحية الحدودية، يصرون على مواقف ثابتة يتفقون عليها بغالبيتهم الساحقة، وهي :
أولا : الإيمان بالشرعية اللبنانية، المتمثلة بمؤسساستها كافة . وعلى رأسها المؤسسات الأمنية . وأن يكون الجيش اللبناني هو القوة الوحيدة ، التي تتولى مسؤولية الحفاظ على الأمن في المنطقة . ثانيا : الإيمان بالعيش الواحد. وقيام أفضل العلاقات مع المحيط المجاور، كما كان دائما . والتعاون التنموي ، والثقافي، والرياضي، وتفعيل مشاريع اقتصادية مشتركة".