عن عيد فيروز وزيارة البابا ليون
في عشرين تشرين الثاني امتلأت مواقع التواصل الاجتماعيّ بصور فيروز وأغنياتها ومقالات عنها، وذلك في مناسبة عيد ميلادها.
في الأول من كانون الأوّل سيركع البابا ليون أمام ضريح القدّيس شربل.
اثنان جاءا من الفقر، واحدة صارت سفيرتنا إلى النجوم، والآخر صار واسطتنا مع السماء. وأمام كليهما ينحني الملوك والرؤساء.
واحدة شقّت طريقها بين الناس من دون أن تتخلّى عن عزلتها، والثاني عاش في عزلة إلى أن صار ضريحه محجّة الناس.
واحدة صدح صوتها الملائكيّ ليجعل الأرض سماء، وآخر نذر الصمت إلى جانب العفّة والفقر والطاعة فصار في السماء وهو بعد على الأرض.
واحدة عرفت مجد الشهرة في حياتها وصليب الألم على كتفها، وواحد انزوى في صومعته حارمًا نفسه من أمجاد المراكز فنال النصيب الأعظم.
اثنان ولدا في الفقر والحرمان ووصلا كلّ على طريق إلى غنى الروح والفكر، وأدخلا الفرح الحقيقيّ العميق إلى قلوب الناس.
كلاهما تخطّى الطائفة والدين والوطن، كلاهما اختار طريقًا لا يشبه الآخر إلّا من حيث نقطة الانطلاق والوصول. كم هي متنوّعة وكثيرة الطرقات إلى سكينة السماء!
قي كتابي "لأنّك أحيانًا لا تكون" الصادر لدى دار مختارات سنة 2004 وردت الشذرة التالية: "بالقدّيسين والفنّانين ينتقم الفقراء من الأغنياء." اليوم، وأنا أتأمّل في الاحتفاء بفيروز في مناسبة عيد ميلادها، وأتخيّل مشهد الحبر الأعظم خاشعًا أمام جثمان القدّيس، لا أرى في الأمر انتقامًا من القداسة والفنّ. إنّه الخلاص. القدّيسون أكانوا معترفًا بهم أم مجهولين، والفنّانون أكانوا نالوا حظّهم من الشهرة في حياتهم أو بعدها هم خلاص الأغنياء من عنجهيّة قد تصيبهم أو كبرياء قد يدغدغ نفوسهم، أو أنانيّة قد تترافق مع الثراء.
صحيح أنّ الأغنياء يستطيعون شراء لوحة باهظة الثمن لرسّام مات فقيرًا، وصحيح أنّ الأغنياء تُفتح لهم أبواب الصروح الدينيّة والزمنيّة، لكن عند المرض، عند الوحدة، عند اليأس، يعود الأغنياء فقراء إلى لمسة حنان، وكلمة مؤنسة، وتعزية تحفّف ثقل الهموم. وحين كنت أشاهد آلاف الحجّاج إلى مزار القدّيس شربل في عنّايا، كنت أرى كيف تزول الفروقات الطبقيّة حين تمشي الأمّهات حافيات طلبًا لشفاعة القدّيس عند مرض أولادهنّ. وحين أستمع إلى صوت فيروز واصلًا إليّ من سيّارة أجرة عابرة، وهو الصوت نفسه الذي كان يصدح في مهرجانات عالميّة، أطمئنّ إلى أنّ ذلك الصوت لا يقف عند حاجز اللغة والمستوى الاجتماعيّ والشهادات الجامعيّة.
هل كانت تلك الفتاة الخجول نهاد حدّاد تعرف أنّ رؤساء الدول سينحنون أمام مجد صوتها، وهل كان شربل "السكران بالله"، والذي كان رهبان الدير والعاملون فيه يسخرون منه، يعرف أنّ رأس الكنيسة الكاثوليكيّة سيجثو خاشعًا أمام ضريحه؟ بالطبع لا. ولأنّهما لم يكونا واثقين إلى أين الدرب التي اختارها كلّ منهما ستوصلهما، وصلا. وصلا بعدما تاجرا بالوزنات التي أعطيت لكلّ منهما. واحدة مشت درب الصوت والآخر مشى درب الصمت. وحين يكون الصوت يفرض علينا الصمت، وحين يملأنا الصمت بالتأمّلات، يكون كلًّا من فيروز والقدّيس شربل الآتيين من الفقر قد تاجرا التجارة الحسنة ووصلا وأوصلا إلينا رسالة بسيطة مفادها البساطة والتواضع والعمل بفرح.
فيروز خارج إطار المسرح كانت قليلة الكلام في المقابلات ولكنّها في الجلسات الخاصة كانت سريعة البديهة وتحبّ المزاح، وينقل عن شربل أنّه كذلك كان سريع البديهة وحين كان يتكلّم كان يفاجئ الرهبان بنقده اللاذع الطريف. فمن قال إنّ الفرح عدوّ الإبداع والقداسة؟
بين عيد ميلاد فيروز الأوّل بعد وفاة ابنها زياد وأظنّ أنّها زارت مدفنه، وزيارة البابا لاون ضريح القديس شربل، ربّما علينا أن نعيد النظر في حسابات الحياة والموت، وأن نتساءل من الميت حقًّا، وهل زياد وشربل ميتان فعلًا، أم أن فيروز تعي أنّ ابنها أكثر حياة من كثيرين من الذين يرثونه ويندبونه، وأنّ البابا لاون يعترف لشربل قائلًا: أنت أكثر حياة من كثيرين حولك ويدّعون التحدّث باسمك. ساعدني كي أعرف من منهم سيضع لي الماء في سراج الزيت، فأعرف كيف أقود هذا القطيع التائه!