طرابلس في عيد الميلاد تتنفس الفرح والسلام

طرابلس في عيد الميلاد تتنفس الفرح والسلام

على وقع أعمال العنف والمآسي، درج اللبنانيون خلال سنوات الحرب الأهلية على استخدام مصطلح السلام وإطلاقه على الساحات والشوارع والمحال التجارية، تعبيراً عن توقهم الشديد إلى السلام السياسي والاجتماعي. والحال هذا يسري على طرابلس حيث لا تزال واحدة من أبرز وأشهر ساحاتها على مدخلها الجنوبي تحمل اسم مستديرة السلام، وإلى جوارها مستشفى السلام.

لكن السلام بقي منقوصًا بعد الطائف تحت ظلال حكم أجهزة استخبارات نظام الرئيس السوري حافظ الأسد  ومن ثم الرئيس بشار الاسد،خلال عهد الوصاية ومآثره الكارثية، والذي ترك للمشروع الإيراني التوسعي وحلفائه في لبنان إرثاً من الإسقاطات "الهوياتية" على عاصمة الشمال جعلها تخوض صراعاً تحرريًّا خاصّا. وليس صدفة أن التفجير الإرهابي الذي تعرضت له طرابلس عام 2013 أصاب مسجدين يحمل احدهما اسم السلام.

من هذا المنطلق، تبدو طرابلس في عيد الميلاد لهذه السنة وكأنها تعلن عن انتصارها في هذا الصراع، حيث اختلطت أجواء الميلاد بمشاعر الفرح في الذكرى السنوية الأولى لسقوط الأسد، وارتخاء قبضة حزب الله وآلته الإعلامية التي أمعنت في تشويه صورة عاصمة الشمال، لتبدو طرابلس وكأنها تستكمل ذاك السلام الاجتماعي المنقوص، وتفرض إيقاع قيم التعايش المتجذرة في تربتها بين مختلف مكونات الوطن. وأتت زيارة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى طرابلس للتأكيد على هذا الانتصار ومباركته.

ثقافة السلام

بمعزل عن المظاهر التي قد تبدو في ظاهرها بأنها بروتوكولية أو شكلية، مثل وضع شجرة ميلاد في مكان عام، بما يشبه بثّ النشيد الوطني في كل مناسبة مهما كان نوعها، فإن الاحتفاء بعيدي الميلاد ورأس السنة يعدّ من القيم المتجذرة في المجتمع الطرابلسي. ويستدّل عليه بتقاليد درجت عليها المؤسسات الخاصة والجمعيات الأهلية، لكنها كانت تختفي في زحمة الأحداث التي جرت في طرابلس، وكيفية تسليط الأضواء عليها إعلاميًّا وسياسيًّا، حيث يمكن لأي زائر للمدينة ملاحظة انتشار الزينة الميلادية المميزة في المطاعم والمقاهي والمصارف والمراكز التجارية وسائر المؤسسات، مما لا تحتاج إلى دعاية وترويج لأنها تعبير عن ثقافة مجتمعية راسخة.

يضاف إليها الفعاليات المرتبطة بالميلاد، مثل "مدينة الميلاد" من تنظيم جمعية "طرابلس حياة" في معرض رشيد كرامي وسواها. وزحمة الأسواق التي اختفت بعض الشيء بسبب انكفاء أهل المناطق المجاورة عن ارتياد عاصمة الشمال كما اعتادوا تحت تأثير الأحداث والترويج الإخباري السلبي. لكنها هذه السنة تبدو في وضع أفضل، وتحتاج إلى بعض الوقت كي تعود إلى حالتها السابقة. وكذلك التفاف النخب الطرابلسية وحرصها على طقس سنوي يتمثل بإضاءة شجرة ميلاد مميزة قرب معرض رشيد كرامي الدولي. وأيضاً انتشار الاحتفالات وهدايا بابا نويل في المدراس، وخصوصاً تلك العريقة منها، والتي تعد جزءًا أصيلاً من تاريخ وذاكرة طرابلس، وتخرج منها شخصيات أثرت المشهد الوطني في العديد من المجالات.

الفارق هذه السنة أنه أتيح لكل هذه الأجواء أن تكون تحت مجهر الرأي العام على المستوى الوطني. فكان للعيد فرحتين: التحرر من نظام أذاق المدينة مرارات الدم والفقدان وقيّد ثقافتها وحرية أبنائها، وحرية إظهار تقاليد المدينة في الفرح والاحتفال بعيد الميلاد بلا منغصات تفتعلها أجهزة أمن وإعلام أو شلل تنسب لتنظيم ما.

والسلام الذي أشرنا إليه ليس من باب المبالغة أو الافتعال، بل كان عنوان زيارة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى طرابلس بمناسبة اختتام السنة اليوبيلية العالمية التي كان أعلن عنها الراحل البابا فرنسيس مطلع العام، بعنوان "الرجاء الذي لا يخيب"، بهدف مواجهة اليأس، والتشجيع على أعمال المحبة، والتركيز على قيمة الإنسان. وفي الوقت للاحتفال بيوبيل المكرسين الذين أمضوا بين 25 إلى 50 سنة في الخدمة الكهنوتية والرهبانية في مطرانية الموارنة بطرابلس.

لا سلام في المنطقة بدون لبنان وطرابلس

خلال استقبال البطريرك الراعي في مقر دار الفتوى من قبل مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام، بحضور كبار علماء الدار وعدد من ساسة المدينة، قال المطران يوسف سويف، رئيس أساقفة أبرشية طرابلس المارونية، أن "حضور البطريرك الراعي يؤكد رسالة طرابلس كمدينة للسلام". وفيما وصف المفتي إمام زيارة البطريرك إلى طرابلس بالتاريخية، اعتبر الراعي أن "العيد لا يكتمل إلا بحضور المسلمين والمسيحيين معاً"، وأشاد بالعاطفة الطرابلسية المتميزة، وبروح العائلة اللبنانية الأصيلة المتجذرة، والتعايش الجدي والصادق بين أركان هذه العائلة في مدينة السلام.

وفي مأدبة الغداء التي أقامتها دار الفتوى تكريماً للبطريرك الراعي في نقابة المهندسين لتكون مأدبة أخوة ومحبة وتضامن، ركز المفتي محمد إمام والبطريرك الراعي في كلمتيهما على ثقافة السلام.

الرسالة الأبرز في كلمة المفتي إمام تمثلت بتأكيده على أن "الذين يرفعون شعارات مذهبية أو دينية تجاه الأخرين هم مخطئون، ويمشون عكس التاريخ"، وهي رسالة مثقلة بالدلالات والرمزيّات لرجل يمثل رأس المؤسسة الدينية، خصوصاً أنها من قلب مدينة وُصمت بأنها تحمل هوية مذهبية راديكالية. وأتبع ذلك بترجيح خيار الانفتاح والاحتضان والتماسك ليكون بمثابة موقف يمثل نهج طرابلس الأصلي.

بينما صاغ البطريرك الراعي في كلمته معادلة ذات معانٍ تتصل بجوهر المتغيرات التي تعيشها المنطقة، وانعكاساتها على بلدنا، حيث ذكر بأن لبنان انتقل إثر زيارة البابا لاون الرابع عشر، والتي حملت عنوان السلام أيضًا، من لغة الحرب وقرع طبولها، إلى لغة السلام والمفاوضات، مؤكداً بأنه "لن يكون هناك سلام في المنطقة إلا عندما يحصل السلام في لبنان". واعتبر أن "التحدي اليوم هو في أن نتكلم لغة السلام، لذلك في طرابلس نريد أن نمشي في طريق السلام بأمل أن السلام كما ردد قداسة البابا ممكن".

بهذا المعنى يمكن اعتبار زيارة البطريرك الراعي إلى طرابلس في عيد الميلاد هذه السنة زيارة تاريخية فعلاً، بموازاة إظهارها مخزونها "القيمي والهوياتي" بعد مسح غبار الأزمات المركبة، وذلك بدعوة السلام التي أطلقها، وبدعمه إرساء توازن جديد يحوّل طرابلس من فاعل هامشي إلى شريك أساسي على طاولة الاستقرار المنشود على مستوى لبنان والمنطقة.

اقرأ المزيد من كتابات عبد الكريم فياض