طرابلس: أزمات اقتصادية وبرامج واعدة على وقع المتغيرات

طرابلس: أزمات اقتصادية  وبرامج واعدة على وقع المتغيرات

معرض رشيد كرامي (UNESCO)

تعاني طرابلس من أزمات متشابكة في ظل تراكمات اقتصادية واجتماعية وسياسية على مدار العقود الفائتة، حيث تراجع الدور الإنتاجي للصناعات المحلية، وغابت الاستثمارات بسبب الأحداث الأمنية، في موازاة كثافة سكانية هائلة ونزوح ريفي مستمر، وخصوصًا في الأحياء الشعبية وأحزمة الفقر. يضاف إليها تهميش سياسي وإقصاء من البرامج التنموية الحكومية، وارتفاع معدلات البطالة والتسرب المدرسي، وترهل مرافقها العامة وإداراتها. 

 وبالتالي صارت العاصمة الثانية تحتاج إلى معالجة شاملة ترتكز على سياسات تنموية، وبرامج تتجاوز العلاج الموضعي والآني للأزمات، كما هو حال اقتصاد المساعدات الذي ساد في السنوات الأخيرة. غداة تشكيل حكومة الرئيس نواف سلام، بدأ الطرابلسيون يتلمّسون جديّة حكومية في تنفيذ سلسلة من الخطوات والإجراءات لإنعاش مرافقها العامة وتحريك العجلة الاقتصادية، اذ جرى تعيين إدارة جديدة لمعرض رشيد كرامي الدولي والمنطقة الاقتصادية ومرفأ طرابلس، ووضعت قضية مطار رينيه معوض في القليعات موضع التنفيذ.

مركز لوجستي

يقول الخبير الاقتصادي الدكتور أيمن عمر في حديث لموقع "كافيين دوت برس"   أن "استنهاض طرابلس يتطلّب الاستفادة من المناخ الجديد الذي أفرزته التعيينات الأخيرة، وتبوّء إدارة المرافق العامة أشخاص مشهود لهم بالكفاءة، إلى جانب التحوّلات الجارية في المشهد السوري والتي بدأت تعيد رسم مسارات الاقتصاد والحركة التجارية في المنطقة".

ويبيّن عمر أن التغيرات في خطوط النقل نحو سوريا والعراق تفسح المجال أمام لعب مرفأ طرابلس دورًا أكبر كمركز لوجستي يخلق دورًا للمدينة يكمّل دور العاصمة ولا ينافسها، ويساعد على رفع مستوى وإيقاع حركة التبادل التجاري "التبدلات الحاصلة في سوريا، والدعم الدولي والعربي الهائلين لها على الصعيد الاستثماري، عوامل شديدة الأهمية بالنسبة الى طرابلس لكونها تختزن فرصة ثمينة يجب استغلالها لاستعادة دروها التاريخي كبوابة شمالية نحو الأسواق الخليجية، خصوصاً مع الانفتاح السعودي وتالياً الخليجي على السماح بعودة الصادرات اللبنانية إليها".

كذلك يشدّد عمر على ضرورة تشجيع المبادرات المحلية والاستثمار الاغترابي من خلال العمل الجدي على تحسين المناخ الأمني والإداري، في موازاة إنشاء شراكات بين القطاع العام والبلديات مع القطاع الخاص خصوصاً في مجالات النقل، والبنية التحتية، والطاقة البديلة، وإدارة النفايات. إلى جانب إيلاء الأهمية اللازمة للمدينة التاريخية وأسواقها لما تشكل من إرث غني يمكن توظيفه لتعزيز الحركة السياحية والاقتصادية والتجارية. 

الدكتور ايمن عمر

مرافق غير مستغلة

 لطالما جرى الحديث عن المرافق العامة في عاصمة الشمال وما تعانيه من إهمال مستدام اعتبر رمزًا لمظلوميتها. على رأس هذه المرافق يأتي معرض رشيد كرامي الدولي، تحفة المعماري البرازيلي أوسكار نيماير، والذي أنجزت مراحله الأخيرة مع قرع طبول الحرب الأهلية، فلم يتح فرصة الاستفادة منه ضمن الأهداف المرسومة له.

وبعد الطائف، أسهمت عوامل كثيرة مثل الوصاية، وغياب الإرادة السياسية، وغياب الرؤية، في إبقائه مهملاً حتى صارت بعض مبانيه عرضة للانهيار. عام 2023، ونتيجة جهود نخب طرابلسية، أدرج المعرض على قائمة "اليونيسكو" للتراث العالمي المهدد بالزوال، دون أن يؤثر ذلك على واقعه الرديء. 

أما اليوم، فقد بادرت حكومة الرئيس نواف سلام إلى تعيين الدكتور هاني الشعراني رئيساً لمجلس إدارة معرض رشيد كرامي الدولي، الذي يضم فندق "الكواليتي إن" المصنف ضمن فئة "5 نجوم" والمغلق منذ سنوات.وبالفعل، بدأت الحركة تدب في أرجاء المعرض، حيث شهد نشاطات منوعة، وحركة تواصل واجتماعات مع العديد من الأطراف الفاعلة على صعيد العملية الإنتاجية.

يضاف إلى ذلك مطار الرئيس رينيه معوض في بلدة القليعات العكارية، والذي يمثل فرصة استراتيجية لمدينة طرابلس، والشمال عموماً، لأن تشغيله يحوّل عاصمة الشمال إلى نقطة وصل رئيسية مع أوروبا وتركيا والعالم العربي، ويعيد تنشيط القطاعات السياحية واللوجستية، ويخفف الضغط الشديد عن مطار رفيق الحريري في بيروت، ويجذب استثمارات جديدة ترتبط بالنقل الجوي.

برنامج النهوض

يكشف الدكتور هاني الشعراني لموقع "كافيين دوت برس" أن الإدارة الجديدة لمعرض رشيد كرامي صاغت برنامجاً للنهوض يشمل 5 مسارات مترابطة لمنحه وظيفة اقتصادية واضحة تخرجه من دائرة الإهمال إلى الإنتاج:

1-  إعادة تأهيل الموقع بطريقة علمية ومدروسة، والتعاون مع خبراء دوليين في ترميم مباني نيماير لكون الموقع يحمل قيمة تراثية عالمية.

2-  إعادة توظيف المباني بوظائف اقتصادية فعالة، حيث يضم المعرض أكثر من 15 مبنى كل واحد منها يمكن تحويله إلى مركز إنتاجي: مثل تحويل القبة إلى متحف تفاعلي للعلوم والفنون، إنشاء مساحة خاصة للشركات التكنولوجية والابتكارية.

3-  إطلاق شراكات مع القطاع الخاص المحلي والدولي، استثمار بعض المساحات بنظام BOT أو شراكات طويلة الأمد، والتعاون مع المؤسسات الدولية المانحة.

4-  تقديم رؤية اقتصادية للمعرض بهدف إنتاج مشروع اقتصادي مستدام يحقق إيرادات للمدينة والخزينة العامة، عبر تأجير مساحات، وبيع خدمات المؤتمرات، واستضافة مهرجانات، وتطوير نشاطات سياحية مدفوعة.

5-  حملة ترويجية لعودة المعرض إلى الخارطة الإقليمية، وربطه بالمدن الإقليمية البارزة مثل دبي واسطنبول والدوحة.

 إلى ذلك، يبين الشعراني أن المعرض "يمكن أن يكون القلب النابض للاقتصاد في طرابلس لامتلاكه عناصر لا تتوفر في أي مكان آخر في لبنان: مساحة شاسعة، موقع استراتيجي، قيمة هندسية فريدة، مبانٍ قابلة للتحويل إلى منشآت رائدة".

الدكتور هاني شعراني

ويتحدث عن ستة مستويات أساسية يشكل كل واحد منها شرياناً اقتصادياً واعداً  "خلق بيئة أعمال جديدة من خلال تحويل جزء من المعرض إلى منطقة أعمال "Business Park". تنشيط قطاع المعارض والمؤتمرات حيث تجلب كل فعالية آلاف الزوار وتحرك الفنادق والمطاعم والنقل والخدمات. استقطاب السياحة الثقافية بالارتكاز على أهمية إرث نيماير المعماري على الصعيد العالمي".

يضيف الشعراني " يمكن دعم الصناعات الإبداعية والفنون من متاحف ومسارح ومساحات لعروض تصاميم الموضة، حيث تستطيع هذه الأنشطة توليد العديد من فرص العمل وخلق اقتصاد مكمل. كذلك توفير فرص عمل مباشرة وغير مباشرة عبر المجالات الممكنة، من الهندسة والترميم، الإدارة والتشغيل، الخدمات والضيافة، التكنولوجيا. وأخيراً ربط طرابلس بشبكات الاستثمار الإقليمية عبر إقامة المعارض الاقتصادية والزراعية والصناعية". وبالتالي عندما يتحول المعرض إلى بيئة أعمال وفعاليات سياحية وثقافية فإنه ينعش المدينة كلها، ويعيد لها مكانتها كمركز اقتصادي على شاطئ المتوسط.

وعليه، فإن التعيينات الأخيرة والتبدل الإقليمي يشكلان فرصة حقيقية، لكن استنهاض طرابلس يحتاج إلى إرادة سياسية محلية وطنية في آن، وإدارة فعالة، واستخدام ذكي لموقع المدينة وطاقاتها، بحيث تتحوّل من مدينة مهمشة إلى مركز اقتصادي يعتمد على اللوجستيات والتجارة والتعليم والخدمات.

اقرأ المزيد من كتابات عبد الكريم فياض