إرث طرابلس الثقافي: فرص ضائعة وآمال معلّقة

إرث طرابلس الثقافي: فرص ضائعة وآمال معلّقة

الدكتورة جمانة شهال

في أيار 2015، اختار وزراء الثقافة العرب مدينة طرابلس، بناءً على توصية من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو"، لتكون "عاصمة الثقافة العربية لعام 2021". ولكن، بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي مر بها لبنان، وانفجار مرفأ بيروت، وتفشي وباء كورونا، طلب لبنان تأجيل الحدث إلى عام 2023، ثم إلى 2024.

فرصة ثمينة

عندما تقدمت وزارة الثقافة بطلب اختيار طرابلس عاصمة للثقافة العربية، كان الهدف تعزيز دورها عاصمةً ثانية للبنان، وتحويلها وجهة سياحية وثقافية بارزة. يُعد هذا الحدث فرصة ذهبية لإبراز إرث طرابلس الثقافي والحضاري من خلال أنشطة تمتد على مدار العام، تشمل مجالات متنوعة، وتستضيف دولًا وشخصيات عربية ودولية. كانت الغاية تعزيز التواصل بين الشعوب، وتأسيس علاقات مستدامة تساهم في جعل طرابلس مركزًا للجذب السياحي والخدمي، إلى جانب رفع مستوى التبادل التجاري والمعرفي.

لكن، عوامل عدة ساهمت في إضاعة الفرصة، فخرجت طرابلس من عام 2024 كما دخلته. في طليعة تلك العوامل، الانهيار المالي والاقتصادي وتداعياته، التي أدت إلى محدودية الموازنة العامة وتركيزها على الأولويات الحياتية، فضلاً عن تأثر البلاد بـ"حرب الإسناد" الناتجة من عملية "طوفان الأقصى".

وفوق ذلك، تأخرت الحكومة في التحضير الجدي للحدث، الذي كان يفترض أن يبدأ من عام 2022 على الأقل. ففي أيار 2023، أصدر رئيس الحكومة آنذاك نجيب ميقاتي قرارًا بتشكيل لجنة مركزية للحدث برئاسة وزير الثقافة محمد وسام المرتضى، الذي بدوره أصدر في تشرين الأول من العام نفسه قرارًا بتشكيل لجان متخصصة. لكن تلك اللجان واجهت انتقادات لكونها غير متجانسة وفضفاضة.

على العموم، طغت الارتجالية على تعامل الحكومة مع هذا الحدث، الذي كان يمكن استثماره بطريقة أفضل بكثير، خصوصاً مع غياب موازنة مخصصة له، إذ كانت شبه معدومة.

ومع ذلك، تمتلك طرابلس إمكانات هائلة يمكن توظيفها لتحويل تراثها الثقافي والتاريخي إلى مصدر دخل مستدام، يحرك العجلة الاقتصادية في العاصمة الثانية، ويعود بالنفع على مختلف القطاعات، ويخلق فرص عمل، ويساهم في إنتاج دور حيوي لمدينة تعاني سياسات التهميش لمصلحة المركز.

الحوكمة وبناء الهوية

يوضح المدير العام لوزارة الثقافة، الدكتور علي الصمد، أن طرابلس تتميز بإرث ثقافي يفوق نظيره في المدن الأخرى، بفضل الترابط الجغرافي لمعالمها السياحية. فالمدينة غنية بالأسواق التاريخية، والخانات، والجوامع، والمساجد القريبة من بعضها، إلى جانب موقعها الجغرافي القريب من الساحل ووجود جزر يمكن استثمارها لتصبح وجهات سياحية جاذبة.

ويؤكد الصمد أن بناء هوية سياحية للمدينة، تتناغم مع تاريخها وتراثها الثقافي، يُعد الركيزة الأساسية. ينبغي أن تشمل هذه الهوية القطاعات التي تشتهر بها طرابلس، مثل الصناعات الحرفية، التي تكاد تكون المدينة الوحيدة في لبنان التي لا تزال نشطة فيها، إلى جانب المطبخ الطرابلسي الشهير، والحلويات، والقطاع المطعمي الذي شهد تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة.

ويضيف الصمد أن نجاح تحويل طرابلس إلى مركز جذب سياحي يعتمد على ثلاث ركائز: أولًا، السياسات الحكومية الداعمة؛ ثانيًا، آليات حوكمة فعالة من خلال السلطات المحلية؛ وثالثًا، المبادرات الأهلية عبر الهيئات والجمعيات، التي يمكن أن تؤدي دورًا محوريًا في التأثير على الركيزتين السابقتين من خلال نهج تصاعدي من القاعدة إلى القمة.

ويستشهد الصمد بتجربة إعادة إعمار المناطق المتضررة من انفجار مرفأ بيروت، التي عادت أفضل مما كانت عليه بفضل مبادرات محلية، بدعم محدود من اليونسكو وبرعاية وزارة الثقافة. ويشدد على أهمية التسويق الإعلامي الاحترافي لإبراز تراث طرابلس، بالتعاون مع نخب المدينة السياسية والثقافية والاجتماعية، بدلاً من انتظار المبادرات من وسائل الإعلام.

الدكتور علي الصمد

الثقافة ليست رفاهية

من جانبها، ترى الدكتورة جمانة شهال تدمري، رئيسة "جمعية تراث طرابلس لبنان"، أن اختيار طرابلس عاصمة الثقافة العربية لعام 2024 كان فرصة ضائعة. فتشكيل اللجان كان يجب أن يبدأ منذ عام 2022، كما أن توسيعها لتشمل جميع أعضاء المجتمع المدني لم يكن عاملًا مساعدًا. وتضيف أن تأخر إطلاق الحدث رسميًا حتى أيار 2024، وغياب برنامج واضح للأشهر اللاحقة، أضعفا من تأثيره.

وتؤكد تدمري، التي تنشط منذ سنوات في إقامة أنشطة تبرز تراث طرابلس، أن "الثقافة هي أكبر ثروة للبنان، وليست رفاهية أو كماليات، بل قادرة على خلق فرص عمل وتنشيط الدورة الاقتصادية". وتضيف أن طرابلس، التي لا تملك نفطًا أو موارد جوفية، تعتمد أساسًا على تراثها الثقافي، الذي لم يُفعّل بالشكل الأمثل.

وتشير إلى معرض الرئيس رشيد كرامي الدولي، الذي اختيرت عضوًا في مجلس إدارته حديثًا، مثالاً على موقع يمكن تفعيله اقتصاديًا وثقافيًا من خلال رؤية جديدة، تساهم في تغيير واقع عاصمة الشمال. كما تلفت إلى أهمية حماية البيوت التراثية في المدينة القديمة من الانهيار، وتحويلها مرافق مثل جامعات، مكتبات، فنادق، مطاعم، أو بيوت ضيافة، لجذب السياح من لبنان وخارجه، خصوصًا من أوروبا.

مخزون ثقافي لا يُضاهى

في المقابل، يرى الدكتور سابا زريق، رئيس "مؤسسة شاعر الفيحاء الثقافية"، أن الوضع المالي للدولة فرض أولويات حالت دون استثمار فرصة اختيار طرابلس عاصمة الثقافة العربية 2024. لكنه يؤكد أن طرابلس تظل المدينة الأكثر نشاطًا ثقافيًا في لبنان، بفضل مراكزها الثقافية مثل "الرابطة الثقافية"، "مركز الصفدي"، و"بيت الفن"، إلى جانب العديد من المنتديات التي تستضيف فعاليات في الأدب، الفلسفة، إصدار الكتب، والندوات.

ويضيف زريق أن طرابلس تمتلك مخزونًا ثقافيًا وأدبيًا لا يُضاهى، لكنه يعاني تهميشًا إعلاميًّا، رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في إبرازه. ويشير إلى تصاعد الطاقات الشبابية في المجالات الثقافية المتنوعة، مثل الفن التشكيلي والكتابة. ويؤكد أن التراث الثقافي، وعلى رأسه معرض رشيد كرامي الدولي، يمثل موردًا اقتصاديًا حيويًا يمكن أن ينشط الدورة الاقتصادية إذا أُحسنت إدارته.

الدكتور سابا زريق

تحديات وفرص

إلى جانب ما سبق، تعاني طرابلس إشكاليات مزمنة، مثل التهميش الممنهج، وضعف البنية التحتية، وغياب نظام نقل فعّال يتيح التنقل بسهولة داخل أحيائها. هذه العوامل تؤثر سلبًا في استثمار تراثها الثقافي والتاريخي، الذي يضم أكثر من 180 معلمًا تراثيًا، إلى جانب العديد من المعالم الثقافية والحضارية.

ومع ذلك، ثمة تحديات أخرى لا تقل أهمية، مثل ضعف المبادرات المحلية، وغياب المتابعة الجدية من النخب السياسية لتفعيل القوانين والقرارات الراكدة. يتطلب الأمر فرض حضور طرابلس ضمن المعادلة الرسمية، لخلق روافد تنموية، ولو محدودة، تشكل نقطة انطلاق لتغيير الواقع الراهن. يمكن تحقيق ذلك من خلال الاستثمار في التراث الثقافي والتاريخي والقيمي للمدينة، لتحويله  مصادر دخل مستدامة، تدعم دورة اقتصادية شاملة، وتساهم في إنتاج دور حيوي لطرابلس تبحث عنه منذ الاستقلال.

 

اقرأ المزيد من كتابات عبد الكريم فياض