الكابتاغون يتفشّى بين الشباب ومشروع "فرصة" يتصدّى له

يعدّ الإدمان على المخدرات، بمختلف أنواعها ومسمّياتها، بمثابة القاتل الصامت الذي ينتشر في المجتمعات ويفتك بها، مطيحًا على وجه الخصوص بشبّانها وشاباتها، دون تمييز سياسيّ أو دينيّ أو مناطقيّ، ويلقي على عاتق الحكومات ومؤسّسات الدولة أعباء ثقيلة تنوء بحملها وتعجز عن مواجهتها.
من هذا المنطلق، تداعت العديد من الهيئات الأهليّة ومنظّمات المجتمع المدنيّ في لبنان إلى أخذ زمام المبادرة في محاولة التصدّي لهذه الآفة الخطيرة، والتي تشهد في السنوات الأخيرة توسعًا هائلًا، ولا سيّما مع انتشار أنواع المخدّرات الزهيدة الثمن، مثل الكابتاغون، والتبعات السلبيّة للانهيار الاقتصاديّ والماليّ الذي تمرّ به البلاد، من البطالة إلى هبوط قيم الرواتب، مرورًا باختفاء الودائع وجنى الأعمار، وصولًا إلى اليأس وانعدام الأمل لدى شرائح سكانيّة كبيرة.
من رحم المعاناة
بيد أنّ نشاط هذه الهيئات والمنظمات اقتصر غالبًا على نشر التوعية والتحذير من هذه الآفة، بسبب محدوديّة الإمكانات الماليّة، زد عليها ضعف المبادرات الجديّة التي يمكن مراكمتها والبناء وعليها. ومع ذلك، تبرز جمعيّة "أم النور" الخيريّة في هذا المضمار، حيث تعتبر الوحيدة التي استطاعت تأسيس مبادرة مستدامة، حقّقت نجاحات عملانيّة.
ولدت هذه المبادرة من رحم المعاناة، حينما قام عدد من الشبان أواخر ثمانينات القرن الماضي، على إثر وفاة صديق لهم بسبب الإدمان على المخدرات، بتأسيس جمعيّة "أم النور" بالتعاون مع الخوري ( المطران لاحقا) غي نجيم . ومذاك أثبتت هذه الجمعيّة جديّتها في سلوك درب صعب ومعقّد ومحفوف بالمخاطر، وراكمت سجلًّا مهنيًّا موثوقًا وناجحًا يتوسّع باضطراد.
أسّست هذه الجمعيّة أوّل مركز في لبنان لتأهيل المدمنين في بلدة "فيطرون" في كسروان، أتبعته بمركزَي تأهيل، واحد للذكور في بلدة "سهيلة"، وثانٍ للإناث في بلدة "فتقا". تضمّ هذه المراكز أطباء ومعالجين متخصّصين في علم النفس، وأخصائيّين اجتماعيّين، ومحامين. فضلًا عن مدمنين تماثلوا للشفاء وتغلّبوا على هذه الآفة، وذلك بهدف إفادة المدمنين الحاليّين من تجاربهم، وتعزيز صلابة إرادتهم وقرارهم.
كما أنشأت شراكات مع العديد من الفاعلين المحليّين والخارجيّين والمانحين. ووضعت برامج علاجية متعددة المراحل والمستهدفات. واستندت على الخبرات التي راكمتها لتنظيم دورات وتدريبات في دول خارج لبنان، ما أتاح تبادل الخبرات والانفتاح على طرائق وأساليب علاجيّة ووقائيّة حداثيّة.
شراكة واعدة
في حزيران 2024، أطلقت جمعيّة "أم النور" مشروع "فرصة" في طرابلس، بالشراكة مع جمعيّة "المنهج" الخيرية، وبالتعاون مع الجيش اللبنانيّ ودار الفتوى في طرابلس وعكار، وأبرشيّة طرابلس المارونيّة، وبدعم من السفارة الهولنديّة، ليكون أول مشروع من نوعه على مستوى محافظَتي الشمال وعكار.
يجسّد هذا المشروع شراكة مدنيّة دينيّة عسكريّة اجتماعية واعدة لمواجهة انتشار الإدمان، وخصوصًا في المجتمعات المهمّشة، حيث تشير الإحصاءات والدراسات إلى انتماء شريحة واسعة من المدمنين إلى طبقات هذه المجتمعات، وبالتحديد في الفئة العمرية بين 18 – 30 عامًا، والتي تعدّ الفئة الأكثر إنتاجية في هرم المجتمع، وهذا نابع من تضافر جملة من العوامل السلبيّة التي تفاقمت بسبب الأزمات اللبنانيّة، وإن كان أكثرها تأثيرًا الشعور باليأس من إمكانيّة حصول تحوّلات قد تغيّر هذا الواقع السلبيّ.كلّ ذلك أفسح المجال أمام انتشار الحبوب المخدّرة الزهيدة التكلفة. وتكشف بعض الدراسات عن وجود نسب من المتعاطين بدأوا إدمانهم في سن مبكرة للغاية أي ما بين 12 إلى 13 عامًا، ما يعني أنّ هذا العامل مرتبط بشكل أساس بارتفاع نسب التسرّب المدرسيّ إلى معدّلات كارثيّة علاوة على تفشّي الإدمان أكثر سنة بعد سنة.
ولكي لا نغرق في النظرة السلبيّة، ثمّة مؤشّرات واعدة تتمثّل بارتفاع معدّلات الشفاء في أوساط المدمنين الذي يتلقّون رعاية في مراكز التأهيل تصل إلى حدّ الـ 60 %، في حين أنّ النسبة العالميّة لا تتجاوز الـ 12 %.
ففي عام 2013، أجرت الجامعة الأميركيّة في بيروت دراسة ميدانيّة على حالات عولجت من الإدمان عبر جمعيّة "أم النور"، وذلك بعد 5 سنوات من إنهائهم البرنامج العلاجيّ. وبينت الدراسة أنّ نسبة الأشخاص الذين تماثلوا للشفاء ولم يعودوا إلى الإدمان مطلقًا بكافة أشكاله تجاوزت الـ 60 %.
هذه المؤشّرات تشكّل حافزًا إيجابيًّا لجمعية "أم النور" ومشروع "فرصة"، وكذلك لكلّ الأطراف المشتركة في عملية علاج الإدمان، بدءًا من المدمن نفسه وصولًا إلى عائلته ومجتمعه. وارتفاع هذه المؤشرات الإيجابيّة ينبع بشكل أساس من الثقافة والقيم المتجذّرة في المجتمع اللبنانيّ على اختلاف خصوصيّاته، وإيثاره مبادئ التضامن العائليّ والمجتمعيّ، فضلًا عن الإيمان الديني.
"فرصة": برنامج شامل بقيم راسخة
يوضح مدير مشروع " فرصة" زياد خوري، والذي كان قبل ذلك مدير مركز إعادة تأهيل المدمنين في جمعية "أم النور" أنّ " اسم المشروع مستوحى من فكرة أنّه "يشكل فرصة جدية لكلّ مدمن من أجل الإقلاع عن الإدمان وإعادة الاندماج في المجتمع". هذا المشروع الذي يضم فريقًا متعدّد الاختصاصات، يرتكز على مجموعة من القيم أبرزها "العطاء بمجانيّة كاملة تشمل مختلف مراحل التأهيل"، و"عدم التمييز الدينيّ أو المناطقيّ أو الجندريّ، كما أن المركز يستقبل حالات من جنسيات مختلفة"، بالإضافة إلى السريّة المهنيّة "الشخص القادم إلى المركز للعلاج بياناته سريّة ولا تستطيع أي جهة الحصول عليها".
يشير خوري الى أن مشروع "فرصة" يتضمن 7 خدمات:
1 – مركز "الاستقبال" في "مركز طرابلس الصحي الاجتماعي" قرب مستديرة نهر "أبو علي" بطرابلس: يستقبل كلّ من لديه حالة إدمان بعد تواصل عبر الأونلاين لحجز موعد. مهمّة المركز تقديم الشروحات للمدمن وللأهل حول حجم المشكلة والصعوبات المرافقة لها والتي تعيق التخلّص منها. والهدف هو تجاوز مرحلة الإنكار التقليديّة عند المدمن، والانتقال إلى مرحلة الاعتراف بمشكلة الإدمان، وتشجيعه على اتّخاذ القرار بتلقي العلاج. ليصار بعدها إلى تحويله إلى المستشفى لتنظيف جسده من السموم وسحب المواد المخدّرة.
2 – مركز "إعادة التأهيل" في محلة أبي سمراء بطرابلس: وهو مركز داخليّ يخضع فيه الذكور الذين يعانون من الإدمان إلى برنامج شامل، فكريًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وسلوكيًّا وتربويًّا، مع متابعة الشقّين القانونيّ والصحيّ، على اعتبار أن جسد المدمن يكون خلال سنوات الإدمان مهملًا صحيًّا على كافّة المستويات. وهذا المركز جرى تأهيله بدعم من الجيش اللبنانيّ حين كان الرئيس جوزاف عون لا يزال قائدًا للجيش، وبمنحة من السفارة الهولندية. في حين يتم تحويل النساء إلى مركز فتقا.
وتكون مدة إعادة التأهيل 15 شهرًا، تنقسم بدورها إلى 5 مراحل. أوّلها الانقطاع الكلّي عن المجتمع لنحو 3 أشهر من أجل إبعاده عن أي مؤثرات يمكنها التأثير في قراره بالعلاج. في حين أنّ المرحلة الثانية - وتسمّى بـ"المرافقة" - يكون فيها المدمن مسؤولًا عن مرافقة شخص جديد وفد إلى المركز للغاية نفسها. وفي هذه المرحلة يبدأ أيضًا باستقبال أسرته.
3 – برنامج الأهل: إطلاع أسرة المدمن بعمق على مشكلة الإدمان وتعريفهم بفلسفة العلاج التي يقدمها المشروع، لأنها هي من ستتابع مع المدمن، مما يفترض تعريفها على ماهية الأشياء المسموح بها، وتلك غير المسموحة للحدّ منها.
4 – مركز العلاج الخارجيّ: مخصص للأشخاص المتعاطين ولديهم خطورة الوصول للإدمان، أي أنهم ما يزالون في بداية طريق الإدمان، مثل الذي يتعاطى مرّة أو اثنتين في الأسبوع، ويسمّى "متعاطي ظرفي". البرنامج مفصّل بنمط يعينه على عدم تطوّر حالته والوقوع في فخ الإدمان.
5 – برنامج السجون: إنشاء خطوط تواصل مع إدارات السجون لمتابعة المسجونين المدمنين، حتى تكون حالة السجين مهّيأة عند خروجه من السجن للالتحاق بمركز العلاج، وتاليًا ضمان عدم عودته للإدمان.
6 – برامج التوعية والوقاية بالتنسيق مع البلديات ومؤسّسات الدولة في المجتمعات المحلية.
7 – برامج التوعية والوقاية بالشراكة مع الجامعات والمدارس.
يكشف زياد خوري عن قيام مشروع "فرصة" بنحو 1400 حالة تدخل خلال سنة ونيف، إذ يأتي تقريبًا كلّ شهر إلى مركز الاستقبال ما بين 30 إلى 35 شخصًا "المشروع مفتوح، وبلا حدود أو آجال معينة". مشيرًا الى أن أكثر حالات المعالجة تكون لحبوب الكابتاغون، ويمكن أن يكون المدمن يتعاطى خليطًا من عدة مواد.
يعترف خوري بأنّ المشروع "يواجه صعوبات على صعيد تأمين الموارد اللازمة، إذ أن الخدمات كلّها مجانيّة، ومصادر التمويل هي مساعدات من أشخاص أو جهات واهبة. وبالتالي هناك حاجة إلى الدعم المادي والعيني. رغم ضعف الإمكانيات إلّا أنّنا نكافح من أجل تغطية أكبر شريحة ممكنة".