طبيب القرية: "المختار الأبيض" الذي لم يغادر

طبيب القرية: "المختار الأبيض" الذي لم يغادر

عيادة في القرية

رغم أنني أسكن في الكورة، وفيها الكثير من العيادات، لكن طبيب القرية أرتاح له أكثر". بهذه العبارة تختصر نورا مراد (80 عامًا) تجربة صحية طويلة. في منطقة لا تعاني نقصًا في الأطباء، لم يكن خيارها مبنيًا على القرب الجغرافي أو وفرة الاختصاصات، بل على الثقة والمعرفة المتراكمة.

نورا، التي عولجت من مرض السرطان، لم تدخل المستشفى إلا يوم  اجراء العملية وتبقى فيها لأيام قليلة بعدها. طبيبها كان يتابع حالتها في منزلها حين كانت تعاني من صعوبة في الحركة، ويعرف تاريخها الصحي والعائلي. تقول "كان يزورني في البيت لأنني لا أستطيع المشي بسهولة، وهكذا عالجني طوال المرض".

هذه المعرفة، بالنسبة اليها، " جعلت العلاج أبسط وأقل إنهاكًا". واليوم، تنقل نورا هذه الثقة إلى أحفادها، وتوصيهم بالطبيب نفسه،  "دائمًا أقول لأحفادي استشيروا هذا الطبيب، لأنه عالجني أنا وجدهم، ويعرف تمامًا الحالات الموجودة في العائلة، وحتى لو لم يكن موضوع الاستشارة من اختصاصه، فالثقة به والطمأنينة التي يوفّرها تكفي".

 ما عاشته نورا يكشف نمطًا أوسع من الرعاية الصحية في القرى، حيث لا تُبنى العلاقة بين الطبيب والمريض على زيارة عابرة، بل على حضور دائم. هذا الحضور هو ما يميّز أطباء قرروا البقاء خارج المنظومة المركزية للرعاية الصحية، وجعلوا من عياداتهم نقاط استقرار صحي واجتماعي في مناطقهم.

أحد هؤلاء هو د. طوني عيسى، جراح عام مقيم في كفرحلدا، فتح عيادته في بلدته منذ أكثر من 26 عامًا. ورغم أنه افتتح سابقًا عيادة ثانية في الكورة، اختار إغلاقها ليبقى قريبًا من أهالي قريته، متنقلًا فقط بين عيادته في كفرحلدا ومستشفى تنورين الحكومي ومستشفى البترون الحكومي. ويشرح قراره قائلًا"من الأساس كان رأيي أن أبقى في قريتي، وأن يكون وجودي فيها على مدار الساعة". ويضيف "هذا الوجود الدائم يعني أيضًا تحمّل مسؤولية الحالات الطارئة في أي وقت، وهو جزء أساسي من دوري كطبيب في القرية، فلا أعتبره عبئًا إضافيًا".

 بحسب تجربته، هذا الوجود الدائم يغيّر مسار العلاج. ويقول عيسى: "عندما أعرف العائلة وتاريخها الصحي، أستطيع أن أشخّص الحالة في شكل أسرع، وأحيانًا أوفّر على المريض عناء الدخول إلى المستشفى وإجراء فحوصات وصور لا تكون ضرورية". ولا يقتصر عمله على كفرحلدا، إذ يقصده مرضى من القرى المجاورة، ويقوم بزيارات منزلية عند الحاجة.

 هذا النموذج من الطب القريب يتكرّر في تنورين، حيث يعمل دكتور حميد حرب كطبيب أسنان منذ أكثر من أربعين عامًا. عيادته، التي افتُتحت في بداياته المهنية، لا تزال تستقبل أبناء البلدة حتى اليوم، رغم أنه يتشارك عيادة أخرى مع ابنه في البترون.

يقول إن البقاء في القرية كان خيارًا طبيعيًا "في القرية تكون قريبًا من الناس، وتوفّر عليهم عناء التنقل، وتكون حاضرًا بينهم". ويؤكد أن أسعار العلاج لا تختلف عن المدينة، نظرًا الى ارتفاع كلفة المعدّات والمواد الطبية التي لا يمكن الاستغناء عنها. إلا أن الفارق الحقيقي، في رأيه "يكمن في سهولة الوصول واستمرارية المتابعة، وفي العلاقة اليومية التي تنشأ بين الطبيب وأبناء البلدة".

ويضيف "هذا النموذج اليوم خيار فردي، ومعظم الأطباء الشباب يفضّلون المدينة، وأنا لا ألومهم، حتى ابني، طبيب الأسنان، اختار هذا الطريق".

 الحضور نفسه يطبع تجربة دكتور عادل معلوف، طبيب الصحة العامة والطوارئ في دوما، الذي يعمل في المنطقة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ويغطي معظم قرى قضاء البترون.

قبل انضمامه إلى مستشفى تنورين الحكومي، كان يومه يمتد من الصباح حتى المساء، متنقلًا بين البيوت. يصف تلك المرحلة قائلًا "كنت أخرج من السابعة صباحًا ولا أعود قبل السابعة مساءً، أتنقّل من منزل إلى آخر ومن مستوصف إلى آخر، بحسب الحاجة". أما اليوم، فلا يزال يقوم بزيارات منزلية عند الحاجة، يقدّم العلاج، ويصف الأدوية، وأحيانًا يضع المصل في المنزل إذا سمحت الحالة بذلك. ويقول: "في حالات كثيرة أستطيع أن أتابع المريض في بيته وأوفّر عليه عناء دخول المستشفى، وعيادتي تبقى مفتوحة للجميع".

خبرته الطويلة جعلته يعرف العائلات وتاريخها الصحي، ولا يقتصر دوره على العيادة فقط. فهو يشرف على المتابعة الصحية الدورية لدار المسنين في دوما، كما يتولى، بتكليف رسمي، الإشراف الطبي على موظفي مؤسسة مياه تنورين، حيث يقوم بفحوصات دورية ومتابعة صحية تضمن سلامة العاملين واستمرارية عمل المرفق العام، ما يعزّز دوره كمرجعية صحية تتجاوز حدود العيادة.

 ما يجمع هذه التجارب ليس فقط خيار البقاء في القرية، بل الدور الذي يؤديه هؤلاء الأطباء خارج أي إطار مؤسسي واضح. فهم لا يعملون ضمن خطة وطنية للرعاية الصحية الريفية، بل يملؤون فراغًا قائمًا منذ سنوات. وجودهم لا يخفّف فقط الضغط عن المستشفيات، بل يعيد تعريف الرعاية الصحية كعلاقة مستمرة تقوم على المعرفة والثقة، لا كخدمة عابرة.

 تنعكس هذه العلاقة أيضًا على كلفة العلاج. ففي كثير من الحالات، ذكر الأطباء انهم يراعون الظروف الاقتصادية للمرضى، خصوصًا كبار السن أو أصحاب الدخل المحدود. أحيانًا لا تُفرض كلفة المعاينة ثابتة، أو تُخفَّض إلى حدّها الأدنى، بعيدًا عن الأرقام المرتفعة التي باتت شائعة في المدن، حيث قد تتراوح المعاينة بين 50 و150 دولار. هذه المرونة لا تُبنى على الشفقة، بل على معرفة دقيقة بظروف الناس، وعلى علاقة طويلة تجعل الطب فعل تضامن بقدر ما هو مهنة.

 في المقابل، يختلف الأمر في طب الأسنان. فكما ذكر الدكتور حرب، تبقى الأسعار متقاربة مع المدينة بسبب ارتفاع كلفة المعدات والمواد الطبية، لكن الفارق الحقيقي يبقى في سهولة الوصول واستمرارية المتابعة، وفي حضور الطبيب الدائم بين الناس.

 في القرى، الطبيب ليس مجرد اسم على باب عيادة. مع الوقت، يتحوّل إلى مرجعية يُعتمد عليها، ويؤدي دورًا يشبه "المختار" الصحي، يعرف الناس وبيوتهم، ويتابع حالاتهم ضمن سياقها الإنساني والاجتماعي. ولولا بقاء هؤلاء الأطباء في قراهم، لكان هذا الدور غائبًا، ولكان الفراغ الذي يملؤونه اليوم أشدّ وطأة على المجتمعات المحلية.

اقرأ المزيد من كتابات جاكي مرعب