كي نستعيد العيد
عيد الميلاد، بما ينطوي عليه من مدلول دينيّ، لا يتغير .
خيط واحد من ضيائه يكفي ليبرق فينا الأمل في ظلام الأيّام، وقلقها. لكن الذي يتغيّر، كلّما وافانا، هو شعورنا بالبهجة التي يفترض أن تعمّ جميع القلوب. ولا تختلف بين شخص وآخر، تبعًا للحالة التي يمرّ فيها فحسب، إنّما بين عمر، وآخر .
الذي يتغير في ثبات العيد هو نحن .
ففي صغرنا كنا نسكر من الفرح فور سماعنا لأجراس الميلاد وهي تقرع، ورؤيتنا للطرقات، وهي تغصّ بأقدام المتوجّهين لحضور قدّاس منتصف الليل، في قلب الصقيع، وتتبعنا للصلوات وهي تنبعث من الكنائس، وتنشّقنا لرائحة البخور وهي تختلط بأنفاس الليل، ولهاثه. بعدما نكون قد استبقنا المناسبة، وأعددنا العدّة، بمغارة، وبشجرة تعلوها نجمة من الفرح تشرق في سماء بيوتنا، أشبه بتلك التي هدت المجوس إلى المغارة التي ولد فيها المسيح .
بمرور الوقت، وتعاقب الأعوام التي ازدحمت بشتّى أنواع الحروب، وتداعياتها المستمرّة فصولًا إلى يومنا هذا، وتعبنا، وهمومنا، ومرارات عيشنا، حاولنا جاهدين أن نتطلّع إلى العيد، بعيون أولادنا وهم يتراكضون صوب كلّ ما كان يفرحهم، ويمتعهم . لعلّ البهجة تنتقل عدواها إلينا، وتسري في أوصالنا وهي تغمرهم بشراراتها. ولعلّ الزمان يعود شابًا، نضرًا، كسابق عهده. ونستعيد كلّ تلك الأحاسيس بوجود العيد، بمختلف تجليّاته، في أعماقنا الباطنة .
لكنّنا سرعان ما رحنا نلاحظ أنّ الجو الكالح الكئيب الذي خيّم على أحوالنا، وضيّق علينا الخناق، لم يكن السبب الوحيد الذي نأى بنا عن سلّم النور الذي كنّا نتسلّقه نحو أعالي الفرح، لتخفّفنا من كلّ ما يكدّر الحياة، وينغصّها. إنّما كان هناك سبب آخر. سبب ذاتيّ عائد إلى حكم الزمان الصارم. وإلى العمر الماشي وراء العمر، ودقّات الساعة التي ركضت عقاربها فوق ملامحنا بعجلة لم نكن نتوقّعها. العمر الذي لا يكفّ عن رمينا في البلادة التي انتهينا إليها، وعن إرهاقنا بالجمود المؤلم، بعدما كنّا نضجّ حركة وحياة. ما جعلنا نبتعد، وننفصل تباعًا عن الطفولة فالمراهقة والشباب والرجولة التي عبرناها، هاجرين أنفسنا دون انقطاع. كأنّنا كنّا نقتلع، في كلّ طور من أطوارنا، جزءًا من كياناتنا، ونطرحه جانبًا، مع أوراق المغارة حال فوات أوانها .
واليوم، على قرعات الأجراس التي تتوالى بهدوء، نرى أنفسنا أحوج ما نكون إلى عيش العيد بعيون جديدة. عيون أحفادنا الذين يجتهدون وهم يردّدون ترانيم الميلاد، بأنوف مزكومة، وعبارات متعثّرة، وأحيانًا غير مفهومة، ونسيان مربك، ومضحك، عسانا نسترجع الهالة التي كنّا نضفيها عليه، وجمال وأنوار اللحظة، وقدرتنا المفقودة على امتصاص كلّ الألوان، والنكهات، والنغمات، ونستعيد العيد .








